فى ظل التحولات الاقتصادية المتسارعة التى يشهدها العالم، والضغوط الناتجة عن الأزمات الجيوسياسية المتلاحقة، تبرز قضية الانضباط المالى كركيزة أساسية فى استراتيجية الدولة المصرية لبناء اقتصاد مرن ومستدام. ولم يكن توجيه الرئيس عبدالفتاح السيسى الحكومة بضرورة الالتزام الصارم بالانضباط المالى مجرد إجراء إدارى، بل انعكاسًا لرؤية استراتيجية تهدف إلى حماية مقدرات الدولة، وخفض العجز، وضمان توجيه الموارد نحو المسارات التى تخدم المواطن بشكل مباشر.
أما مفهوم الانضباط المالى فى التوجيه الرئاسى فيعنى باختصار قدرة الدولة على إدارة مواردها بكفاءة، بحيث لا تتجاوز النفقات الإيرادات بشكل يؤدى إلى تراكم الديون غير المستدامة.
وقد شدد الرئيس السيسى، فى لقاءاته المتعددة مع المجموعة الوزارية الاقتصادية، على أن كل جنيه يتم إنفاقه يجب أن يكون فى مكانه الصحيح، ما يضع الحكومة أمام تحدى الموازنة بين الاستثمار فى البنية التحتية وخفض الدين العام. وتتضمن محاور هذا التوجيه عدة نقاط جوهرية، هى: ترشيد الإنفاق الحكومى، وتقليص النفقات غير الضرورية فى الجهاز الإدارى للدولة. ولا بد من تعظيم الإيرادات، ليس من خلال فرض ضرائب جديدة تُرهق كاهل المواطن، بل عبر دمج الاقتصاد غير الرسمى وتوسيع القاعدة الضريبية. وكذلك لا بد من السيطرة على سقف الدين، من خلال وضع حدود قصوى للاقتراض الخارجى والمحلى؛ لضمان عدم تحميل الأجيال القادمة أعباء مالية ثقيلة.
وتأتى توجيهات الرئيس فى وقت حساس للغاية، حيث يواجه الاقتصاد العالمى موجات تضخمية غير مسبوقة. والانضباط المالى هنا يعمل كحائط صد ضد هذه التقلبات. فعندما تنجح الدولة فى خفض عجز الموازنة فإنها تبعث برسالة ثقة للمستثمرين الأجانب والمؤسسات الدولية، ما يسهم فى جذب الاستثمارات المباشرة وخفض تكلفة التمويل.
أما على الصعيد الاجتماعى، فإن الانضباط المالى لا يعنى التقشف الذى يضر بالفئات البسيطة، بل يعنى إعادة توجيه الوفر المالى نحو شبكات الحماية الاجتماعية، مثل برنامج «تكافل وكرامة»، وتطوير قطاعى الصحة والتعليم. إن توجيهات الرئيس كانت واضحة بضرورة أن يتزامن الانضباط المالى مع حماية الفئات الأكثر احتياجًا، لضمان ألا يتحمل المواطن وحده فاتورة الإصلاح.
أما آليات التنفيذ فتأتى من خلال دور الحكومة والرقابة استجابة لهذه التوجيهات. وقد بدأت الحكومة فى تفعيل مجموعة من الأدوات التكنولوجية والتشريعية لضمان الشفافية. ومن أبرز هذه الآليات؛ ميكنة المنظومة المالية، وتطبيق نظام إدارة المعلومات المالية الحكومية الذى يتيح رقابة لحظية على كل المصروفات والإيرادات، وكذلك قانون المالية الموحد، الذى يوفر إطارًا قانونيًا لدمج كل صناديق الدولة تحت مظلة واحدة، ما يمنع تسرب الموارد ويحقق وحدة الموازنة.
ولا بد من تشجيع القطاع الخاص، ويتم من خلال وثيقة ملكية الدولة، حيث تسعى الحكومة لتقليل دور الدولة فى بعض القطاعات، ما يخفف العبء المالى عن الموازنة العامة، ويفتح المجال للاستثمارات الخاصة لخلق فرص عمل.
ولا شك أن تحقيق الانضباط المالى الكامل يواجه تحديات، منها الزيادة السكانية المستمرة، وارتفاع أسعار السلع الأساسية عالميًا. ومع ذلك فإن الإرادة السياسية والمتابعة الدقيقة من قبل الرئيس تضمنان استمرار قطار الإصلاح.
إن الهدف النهائى من هذا الانضباط هو الوصول إلى الفائض الأولى فى الموازنة، وهو ما نجحت مصر فى تحقيقه لسنوات متتالية رغم الأزمات. هذا الفائض يسمح للدولة بسداد فوائد ديونها دون الحاجة لمزيد من الاقتراض، ما يضع الاقتصاد على مسار التعافى الحقيقى.
إن توجيهات الرئيس السيسى بالانضباط المالى هى خارطة طريق للأمان الاقتصادى. إنها دعوة للعمل بمنطق اقتصاديات الكفاءة بدلًا من اقتصاديات الوفرة، لضمان أن تظل الدولة المصرية قوية وقادرة على مواجهة التحديات. وبالانضباط المالى نضمن بناء جمهورية جديدة تقوم على قواعد اقتصادية صلبة، وتوفر حياة كريمة لكل مواطن.
















0 تعليق