مُبِين
الثلاثاء 23/ديسمبر/2025 - 09:22 م 12/23/2025 9:22:35 PM
ليس من الأدب أن نبدأ بالشكوى، ومعرض القاهرة الدولى للكتاب يدخل عامه الجديد محمولًا على أكتاف ملايين الزائرين فى العام السابق، فالأرقام تقول إن المعرض ناجح، والجماهير تؤكد أنه جاذب.
لكن؛ حين تُغلق الأبواب وتُطفأ الشاشات، ويُطوى آخر ملصق على بابٍ كان مفتوحًا للجميع، وتعود القاعات إلى صمتها الأول، ويُمسى المعرض وحيدًا فى يومه الآخير، هل يكون راضيًا عما حصد، أم يطلق سؤاله للهواء:"هل اكتفى بما كان، أم أطلب ما أريد؟".
فى دورته الأخيرة؛ بدا المعرض كمدينة مؤقتة، تُقام على عجل ثم تختفى. مدينة من الورق، يدخلها الناس أفواجًا. المشهد كان مهيبًا، لكنه – مثل كل المدن – يحتاج أن يُروى من الداخل لا أن يُحصى من الخارج. فهل المعرض الناجح يُقاس بعدد فعالياته، أم بقدرته على صناعة لحظة معرفية لا تُنسى. فعلى الرغم من أن البرنامج الثقافى كان وفيرًا إلى حد الدهشة، إلا أنه كان يحتاج أن يُعامل كحكاية واحدة، لا كمقاطع مبعثرة.
فالندوات كانت كثيرة، متجاورة، كغرف فى بيت واسع. فى إحداها امتلأت المقاعد حتى آخرها، وفى أخرى تحدّثت الأفكار إلى الفراغ. لم يكن الخطأ فى كثرة الندوات، بل فى غياب السؤال الأهم؛ أى هذه الفعاليات سيبقى؟ وأيها سيمر مرور اللئام؟.
وفى الزوايا الصغيرة، وقف الناشرون الجدد، يراقبون المشهد من خلف رصات كتبهم محدودة النسخ والطبعات. فنجاح المعرض بالنسبة لهم ليس فى الزحام، بل فى أن يصعدوا إلى صناعة النشر بشكلها الصحيح، أن يشعروا أن المعرض مساحة عادلة لا ساحة مزدحمة. فالمعارض العظيمة تُقاس أيضًا بمدى حمايتها للأصوات الهشة، وبقدرتها على تحقيق توازن عادل بين الكيانات الكبرى والمبادرات المستقلة؛ حين تسأل القائمين عليها:"هل خرج الناشر البادئ من المعرض أقوى؟ هل استطاع أن يُرى وسط المهيمنين؟ هل شعر أن المعرض شريك له أم مجرد مساحة إيجار؟.
ثم تأتى الجوائز، حين تتجه الأنظار إلى المنصة. فالجوائز ليست تكريمًا فقط، بل إعلانًا عن قيم، عن ذائقة، عن موقف ثقافى، فكل جائزة تقول صراحة أوهمسًا: "هذا ما نؤمن به". وقد آن الأوان لنعيد النظر فى فلسفة الجوائز نفسها؛ ونواجه أنفسنا:" هل نريد جوائز للتكريم أم للاكتشاف؟ للاسم الآمن أم للصوت الجديد؟. فالمعرض القادم يحتاج جوائز تجرؤ على التحديث، فإذا آثرت الجوائز الطمأنينة على المغامرة، فقدت قدرتها على صناعة الثقافة. والمعرض القادم يحتاج جوائز تشبه الأسئلة، لا الإجابات الجاهزة.
أما ذاكرة المعرض، فهى المساحة الأكثر هشاشة والأشد احتياجًا للتقييم، فمعرض بهذا الحجم، وبهذا التاريخ، لا يليق به أن يمر كل عام كأنه يبدأ من الصفر. وهنا أنا لا أقصد الأرشيف الرقمى أو البيانى؛ فأنا على يقين من توفر ذلك. لكننى أقصد الأرشيف النقدى، التوثيق المنهجى للنقاشات الكبرى،، الأسئلة التى طُرحت ثم تُركت بلا متابعة. فالمعرض الناجح لا يُغلق صفحته بانتهائه، بل يترك خيطًا ممتدًا إلى العام التالى، كأنه يقول: "نحن نواصل التفكير، لا نكرر العرض".
معرض القاهرة الدولى للكتاب لا يحتاج إلى دفاع، فقد صار حقيقة ثقافية راسخة، لكنه يحتاج فى 2026 أن ينظر إلى نفسه بعين القارئ لا بعين المنظم؛ لا ليُدان، بل ليكبر أكثر وأكثر، فالنجاح الحقيقى فى النهاية، ليس أن يأتى الناس إلى المعرض، بل أن يعود المعرض معهم إلى بيوتهم.


















0 تعليق