قال الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية الأسبق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إن التوبة درجات؛ منها توبة عن المعاصي والذنوب، ومنها الإنابة، وهي أعلى من التوبة؛ حيث يتخلص الإنسان من سوى الله من قلبه، يفرغ القلب عما سوى الله فيشغله الله سبحانه وتعالى، ولا يكون في قلب العبد المؤمن إلا الله؛ فقلب المؤمن لا يبقى خاليا أبدا؛ إما أن يشغل بالدنيا، وإما أن يشغل بالله.
درجات التوبة:
وأوضح فضيلته أن كلما خرجت الدنيا من قلب الإنسان دخل نور الله في قلبه، فصار منورًا بنور الإيمان، إلى أن تصل إلى الإيمان الكامل الذي ليس بعده شك ولا ريب ولا كفر ولا ارتداد، وتصل بذلك إلى عين اليقين بعد علم اليقين، وإلى حق اليقين بعد عين اليقين، ثم تترقى من الإنابة إلى أن تكون أوابا؛ مشتقا من الأوبة، وهي الرجوع التام إلى الله سبحانه وتعالى: ﴿نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: 30].
قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم: 30 - 32].
التوبة:
وأضاف فضيلة الدكتور علي جمعة أنه ينبغي على المسلم أن يرجع إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها، وأن يوقن ويعلم أنه ﴿لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ﴾؛ وإن سواه من الأهواء والتيارات ليس بقيم.
مراحل التوبة والسير في طريق الله تعالى
وقال فضيلته إن السالك إلى الله لا يزال إلى الآن في المرحلة الأولى من الطريق، ومن التوبة؛ فإنه خلَّى قلبه من القبيح، وحلَّى قلبه بالصحيح.
لكن تأتي توبة أخرى بعد ذلك، في مرحلة ثانية، يتشوَّق فيها قلبُ هذا التقيِّ النقي، الذي خلَّى نفسَه وجوارحه من المعصية، ثم خلَّى قلبه من الشوائب، ثم حَلَّى قلبه بتلك المعاني الفائقة الرائقة، وهو في كلِّ ذلك يريد من الله سبحانه وتعالى أن يتجلَّى على قلبه.
وهذا التجلي يأتي بعد التخلِّي والتحلِّي. فما معنى التجلي؟
معناه – كما قالت السادة الصوفية –: «التخلُّق بأخلاق الله»؛ فالله تعالى رحيم، فلا بد من أن نكون رحماء، والله تعالى رؤوف، فلا بد أن نكون كذلك، والله تعالى غفور، فلا بد أن نكون متسامحين، نغفر للآخرين… ويصبح الإنسان في رضا عن الله، عنده تسليمٌ تامٌّ بقدر الله. هذا الرضا وهذا التسليم يتدرَّجان في قلبه على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى:
هي مرحلة يسلِّم فيها بأمر الله، ويُقاوِم نفسَه من الاعتراض، ومن الحزن؛ فهو يحزن، لكنه يمنع نفسَه من أن يعترض على أمر الله، وهو أيضًا يبكي ليل نهار على فقدان الولد مثلًا، لكنه ساكن القلب إلى حكمة الله تعالى.
المرحلة الثانية:
لا يحزن؛ فلو مات له ابنٌ، أو أصابته مصيبة، فإنه يضحك، والسبب: اليقين في لُطف الله وحكمته.
المرحلة الثالثة:
يبكي؛ لأنه يستحضر في نفسه أن الله قد أفقده هذا العزيز لديه الآن من أجل أن يبكي، فهو لا يبكي حزنًا، إنما هو يبكي لله، وهذا هو الذي كان عليه مقام النبوة وأكابر الأولياء؛ فلما فقد النبيُّ ﷺ ابنَه إبراهيمَ بكى.
وفي حديث آخر أنه قد أرسلت ابنةُ النبي ﷺ إليه: «إنَّ ابنًا لي قُبِض، فائْتِنا»، فأرسل يُقرِئ السلام، ويقول: «إنَّ لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكلٌّ عنده بأجلٍ مسمًّى، فلتصبِر ولتحتسِب».
فأرسلت إليه تُقسِم عليه ليأتينَّها، فقام ومعه جماعةٌ من أصحابه، فرفع إلى رسول الله ﷺ الصبيُّ وهو في النَّزع، ففاضت عيناه ﷺ، فقال سعد: يا رسول الله، ما هذا؟! فقال: «هذه رحمةٌ جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم اللهُ من عباده الرُّحماء».
والنبي ﷺ يبكي على إبراهيم، ولكنه يبكي لأن الله قد قدَّر لمن أُصيب بمصيبة أن يبكي؛ فالأوَّل يبكي حزنًا، والثاني يضحك رِضًى، والثالث يبكي مرةً ثانية قهرًا تحت سلطان الله سبحانه وتعالى، واستجابةً لمقتضى ما أجراه الحقُّ في هذا الوقت المخصوص من أحوال؛ وكأن الله أرادني الآن أن أحزن، فأنا أحزن لذلك.
وأكد أن التوبة إذن أول الطريق، وهي مراحل، وهم:
توبةٌ من المعصية.
توبةٌ من الأكوان بالتخلية والتحلية.
توبةٌ من كلِّ شيءٍ سوى الله.
ومن تاب عمَّا سوى الله، تجلَّى اللهُ عليه بصفاته، فكان عبدًا ربانيًّا، يدعو الله ويقول: «يا رب»، فيستجيب الله له، وكان عبدًا ربانيًّا في رضاه بالله، وفي تسليمه لأمر الله، لا مزيد على ذلك عليه، ويكون بذلك قد فعل هذا الشيء الذي يُسمَّى التوبة.








0 تعليق