الثلاثاء 16/ديسمبر/2025 - 06:50 م 12/16/2025 6:50:32 PM
قبل أن يرنّ جرس العقل، تُقرَع اليوم أواني الطهي على الشاشات.
تفتح الفضائيات المصرية أبوابها منذ الصباح على روائح متخيلة، ووصفات لا تنتهي، وكأن الوطن استيقظ جائعًا لا يفكر إلا في معدته. تمتد ساعات البث، وتتبدل الوجوه، ويبقى المضمون واحدًا: طبق يُحضَّر، وشهية تُستثار، وعقل يُؤجَّل إلى وقت غير معلوم. في هذا الزحام الصاخب للمطابخ، ينسحب الوعي بهدوء، بلا ضجيج ولا مقاومة، حتى يكاد يختفي.
لم يكن هذا قدر الشاشة المصرية دائمًا. فالتلفزيون المصري، حين كان في أوج حضوره، لم يكن مجرد وسيلة تسلية، بل كان ضميرًا عامًا، ومعملًا لصياغة الأسئلة، وجسرًا يصل المشاهد بالعلم والفكر والمعرفة. من «العلم والإيمان» للدكتور مصطفى محمود، حيث كان السؤال الفلسفي يمشي جنبًا إلى جنب مع الدهشة العلمية، إلى «نافذة على العالم» التي كسرت العزلة ووسّعت المدارك، إلى «عالم الحيوان» الذي قدّم المعرفة في قالب إنساني راقٍ. كانت تلك البرامج تصنع إنسانًا قبل أن تصنع جمهورًا.
ثم تغيّر المشهد. الفضائيات الخاصة، بدافع السوق وسهولة الإنتاج وسرعة العائد، دفعت ببرامج الطبخ إلى الصدارة، حتى صارت هي اللغة المشتركة بين القنوات. ومع الوقت، لم يعد الأمر مجرد اختيار برامجي، بل تحول إلى مناخ عام، يُكافئ السهل ويُقصي العميق، ويستبدل الفكرة بالوصفة، والتأمل بالمذاق. هكذا أصبح همّ البطن عنوانًا غير معلن، بينما تراجع العقل إلى الهامش، وكأن التفكير عبء لا ضرورة.
الأخطر أن التلفزيون المصري، الذي كان يفترض به أن يقف في الضفة الأخرى، لم يستعد دوره التاريخي كما ينبغي. وهنا تتجه الأنظار إلى الكاتب أحمد المسلماني، رئيس الهيئة الوطنية للإعلام. القرار الذي اتخذه بإلغاء الإعلانات من إذاعة القرآن الكريم قوبل بتصفيق واسع، لما حمله من دلالة أخلاقية واحترام للمحتوى. غير أن السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح: لماذا لم يُقابل هذا القرار بمشروع موازٍ يعيد الاعتبار للثقافة ونهضة الوعي؟ لماذا لم نشهد حماسة مماثلة لإحياء برامج العلم والفكر، أو لإطلاق صيغ جديدة تخاطب عقل هذا العصر؟
الإعلام ليس مائدة ممتدة فقط، بل رسالة ومسئولية. والأمم لا تُقاس بما تطهوه شاشاتها، بل بما تغرسه في عقول أبنائها. وحين تُترك الشاشة لسطوة البطن، دون مشروع يعيد للعقل مكانه، فإن الخسارة لا تكون في برنامج غاب، بل في وعي يتآكل ببطء.








0 تعليق