وقّعت حاكمة ولاية نيويورك كاثي هوكول تشريعًا جديدًا يهدف إلى تحميل كبرى شركات تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي مسؤولية أكبر عن سلامة تقنياتها. القانون الجديد، المعروف باسم RAISE Act، يضع إطارًا قانونيًا يفرض قواعد أكثر صرامة للشفافية والإفصاح، في محاولة لضمان أن التطور السريع لهذه النماذج لا يأتي على حساب الأمان أو المصلحة العامة.
القانون يُلزم شركات الذكاء الاصطناعي الكبرى بنشر معلومات تفصيلية حول بروتوكولات السلامة التي تعتمدها أثناء تطوير نماذجها وتشغيلها، إلى جانب إلزامها بالإبلاغ عن أي حوادث أو إخفاقات تتعلق بسلامة النماذج خلال مدة لا تتجاوز 72 ساعة من وقوعها. وتأتي هذه الخطوة بعد أشهر قليلة من إقرار ولاية كاليفورنيا لتشريعات مشابهة، ما يعكس توجّهًا متزايدًا على مستوى الولايات الأمريكية نحو تنظيم هذا القطاع سريع النمو.
لكن اللافت في النسخة النهائية التي وقّعتها هوكول هو التخفيف الكبير في حجم العقوبات مقارنة بالمسودة الأولى للقانون التي أُقرت في يونيو الماضي. فبينما كانت الصيغة السابقة تتضمن فرض غرامات تصل إلى 10 ملايين دولار عند المخالفة الأولى، وترتفع إلى 30 مليون دولار في حال تكرار الانتهاك، فإن النسخة الحالية خفّضت هذه الأرقام بشكل ملحوظ. ووفقًا للتعديلات الجديدة، ستصل الغرامة القصوى إلى مليون دولار فقط عند المخالفة الأولى، وترتفع إلى 3 ملايين دولار للمخالفات اللاحقة.
هذا التراجع في قيمة العقوبات يعكس، بحسب مراقبين، محاولة لتحقيق توازن دقيق بين حماية المجتمع من مخاطر الذكاء الاصطناعي، وعدم خنق الابتكار أو دفع الشركات الكبرى إلى نقل أنشطتها خارج الولاية. ومع ذلك، يرى منتقدو القانون أن تخفيف الغرامات قد يقلل من فعاليته الرادعة، خاصة في مواجهة شركات تقدر قيمتها السوقية بمليارات الدولارات.
إلى جانب متطلبات الإفصاح والغرامات، ينص قانون RAISE على إنشاء مكتب رقابي جديد متخصص في سلامة وشفافية الذكاء الاصطناعي. وسيعمل هذا المكتب تحت مظلة إدارة الخدمات المالية في ولاية نيويورك، على أن يتولى مهمة تقييم أداء كبرى شركات الذكاء الاصطناعي، وإصدار تقارير سنوية تتضمن تحليلاته وملاحظاته حول مدى التزام هذه الشركات بقواعد السلامة والمسؤولية.
ويمثل إنشاء هذا المكتب خطوة مؤسسية مهمة، إذ يهدف إلى توفير جهة رقابية دائمة تتابع تطورات القطاع، بدلًا من الاكتفاء بردود فعل تشريعية متفرقة. كما يُتوقع أن تسهم التقارير السنوية في زيادة الوعي العام بالمخاطر المحتملة للذكاء الاصطناعي، وتعزيز ثقة المستخدمين في التقنيات الجديدة.
ولا يأتي هذا القانون بمعزل عن سياق تشريعي أوسع داخل ولاية نيويورك. ففي وقت سابق من ديسمبر الجاري، كانت الحاكمة هوكول قد وقّعت قانونين آخرين يتعلقان باستخدام الذكاء الاصطناعي في قطاع الترفيه، خاصة فيما يخص حماية حقوق الفنانين والممثلين من إساءة استخدام تقنيات التزييف العميق أو استنساخ الأصوات والصور دون موافقة.
في المقابل، يشهد المشهد الأمريكي جدلًا متصاعدًا حول الجهة التي يجب أن تتولى تنظيم الذكاء الاصطناعي. فبينما تتحرك ولايات مثل نيويورك وكاليفورنيا لفرض أطر تنظيمية خاصة بها، يدفع الرئيس دونالد ترامب في الاتجاه المعاكس، ساعيًا إلى الحد من محاولات الولايات سن تشريعات مستقلة في هذا المجال. وقد وقّع ترامب هذا الشهر أمرًا تنفيذيًا يدعو إلى اعتماد “معيار وطني موحد بأقل أعباء ممكنة” لتنظيم الذكاء الاصطناعي على مستوى الولايات المتحدة.
هذا التباين بين التوجه الفيدرالي وتوجه الولايات يفتح الباب أمام صدام تشريعي محتمل في الفترة المقبلة، خاصة مع تسارع وتيرة اعتماد الذكاء الاصطناعي في مختلف القطاعات الاقتصادية والخدمية. وبينما ترى بعض الولايات أن التحرك السريع ضرورة لحماية المواطنين، يخشى آخرون من أن يؤدي تعدد القوانين إلى حالة من الفوضى التنظيمية.
في النهاية، يعكس قانون RAISE إدراكًا متزايدًا بأن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد تقنية مستقبلية، بل واقع حاضر يتطلب قواعد واضحة للمساءلة والشفافية. وبين مؤيد ومعارض، يبدو أن نيويورك اختارت أن تكون في مقدمة الولايات التي تحاول رسم حدود آمنة لهذا التطور المتسارع، حتى وإن جاءت هذه الحدود أقل صرامة مما كان مخططًا له في البداية.


















0 تعليق