"هذه غدامس المعروفة بـ ( لؤلؤة الصحراء )، بهذه الكلمات يستقبلنا عثمان الحشاشي، المرشد السياحي الذي وقف كحارس أمين للتراث الغدامسي، أمام مجسم بيت تقليدي في المتحف الوطني الليبي.
يقول الحشاشي مبتسماً عند باب المتحف، "مدينة لا تقرأ تاريخها في الكتب، بل تسمعه يهمس من جدرانها..هذه ليست حجارة عادية، بل صفحات ملونة من كتاب مفتوح"
تخفي غدامس أسراراً لا يعرفها الكثيرون، هناك أكثر من 10,000 عام من التاريخ، جدران رأت مرور القرطاجيين والرومان، والسر الأعظم ليس في حجارتها، بل في ناسها.
"هناك أكثر من 1400 منزل تقليدي في غدامس"، يقول الحشاشي وهو يشير بيده إلى نموذج مصغر لبيت ملئ بالألوان " يقول كل زاوية تحكي قصة، وكل قبة تخبئ سراً".
مرت المدينة بحقب تاريخية متعاقبة، حيث احتلها القرطاجيون ثم الرومان الذين أسموها "Cydamus"، قبل أن يفتحها المسلمون بقيادة عقبة بن نافع عام 42 هـ (667م). بلغت المدينة ذروة مجدها في القرن الثامن الميلادي كواحدة من أهم محطات التجارة عبر الصحراء، قبل أن تخضع لاحقاً للحكم العثماني ثم الاستعمار الإيطالي والفرنسي في القرن العشرين.



و أدركت منظمة اليونسكو هذه القيمة العالمية عندما أدرجت غدامس على قائمة التراث العالمي عام 1986، باعتباره إرث إنساني.


المرأة ملكة
في قلب البيت الغدامسي، توجد "الكوبة" يقول الحشاشي بصوت يخفي وراءه إعجاباً عميقاً: "هذه القبة تستعمل ثلاث مرات في حياة المرأة: في فرح زفافها، وفي لحظة ولادة طفلها، وفي أيام حدادها".
هنا حيث المرأة هي المهندسة والمزينة والحارسة. "إذا رأيت بيتاً مزيناً بإتقان، فاعلم أن امرأة ماهرة تعيش فيه"، يضيف الحشاشي مشيراً إلى سقف منقوش بأحمر دامس. حتى التعليم هنا يختلف: "الصابورة" ليست مجرد وسادة، بل مقعد الجدة التي تعلم عليها الأحفاد فنون النقش والزخرفة منذ نعومة اظافرهم.

ألوان ترقص في الصحراء
على بعد امتار من المتحف، يقف في المدينة القديمة بطرابلس عارضا لتراث مدينة غدامس، محاطاً بأزياء تخطف الأبصار بألوانها.



وفي حديثه عن هذا التراث الحي، قال خالد الحاجي أحد سكان غدامس الأصليين والعاملين في مجال السياحة لأكثر من ٣٠ عام : "انظروا إلى هذه الألوان" و بفخر قال وهو ممسك برداء مطرز: " هذه ليست ألواناً عشوائية، هذه علاقتنا بأفريقيا تتكلم من خلال هذا الزي.. حتى "خماش السودان" - مشيرا الي ملابسه التي يرتديها تروي قصة طريق القوافل القديم، موضحا أن القماش يأتي من السودان.

وينقلنا الحاجي إلى "المورينا"، وهو احتفال نسائي يرتدي فيه النساء زياً خاصاً اسمه من اسم ملكة أمازيغية قديمة. "في الأفراح الغدامسية التي تمتد سبعة أيام، تلبس المرأة زيَّاً مختلفاً كل يوم، بينما يكتفي الرجل بزي واحد".




ويتابع الحاجي:" لكن اللمسة الغدامسية الفريدة تظهر في التفاصيل.. لكل عريس غدامسي نقوش خاصة لحذائه، ولطبق طعامه، ولمروحته..كل نقش له معنى.. وكل شكل يحكي قصة".

معركة الحفاظ على الذاكرة
قصة غدامس لم تكن دائماً وردية ، في عام 2016، أدرجت اليونسكو المدينة القديمة ضمن قائمة التراث العالمي المعرض للخطر، وكانت المعركة طويلة وشاقة




يتذكر عثمان الحشاشي تفاصيل هذه المعركة ويقول "سافر وفد من ليبيا بالملف إلى الصين والشارقة وهولندا والهند"، "وأخيراً، نجحنا في إخراج غدامس من قائمة المناطق المعرفة للخطر
لكن المعركة لم تنته. "الآن نعمل على أربعة مواقع أخرى: كيروس، صبراتة، نبدة، وشحات"، يقول برجاء واضح في عينيه، "علنا ننجح كما نجحنا هنا".
اليوم المتحف الوطني ليس مجرد مبنى يعرض قطعاً أثرية، إنه قلب نابض يعيد الحياة إلى المدن القديمة. في أجنحته، تروي أدوات حجرية عمرها آلاف السنين قصة أول من سكن هذه الواحة، بينما تحكي الصناعات التقليدية للطوارق والأمازيغ عن نسيج مجتمعي فريد.
افتتاح المتحف بداية فصل جديد تعود فيه الحياة إلى الأزقة الضيقة، وتعود فيه الألوان لتزين الجدران، وتعود فيه "لؤلؤة الصحراء" لتتألق كما كانت دائماً: جوهرة ثمينة في تاج التاريخ الليبي.







0 تعليق