قام باحثون من مراكز علمية بارزة بالكشف عن نتائج تسلط الضوء على آليات تكيف بكتيريا السل المتفطرة (Mycobacterium tuberculosis) وقدرتها على مقاومة العلاجات، ما يفتح آفاقًا جديدة لفهم أعمق لهذا المرض.
في دراسة نُشرت في مجلة Nature Communications، استخدم العلماء تقنيات الفحص التسلسلي الطويل للحمض النووي للكشف عن تباينات جينية وترتيبات هيكلية لم تكن معروفة سابقًا. هذه التغيرات الجينية تمنح بكتيريا السل قدرة عالية على البقاء والتأقلم حتى في ظل الضغط الناتج عن استخدام المضادات الحيوية.
تُعرف المتفطرة السلية بقدرتها الفائقة على الصمود في بيئات قاسية وغير مواتية، سواء داخل جسم الإنسان أو خارجه، مثل الأماكن ذات الرطوبة المنخفضة، ودرجات الحرارة المرتفعة، وفترات السكون الممتدة. وقد كشفت الدراسات الأثرية عن وجود علامات إصابة بالسل منذ آلاف السنين، كما هو موثق في مومياوات مصر القديمة التي أظهرت تشوهات هيكلية وآثارًا بيولوجية في العظام والأنسجة، مما يشير إلى تاريخ طويل لهذا المرض.
تبرز أهمية دراسة جينوم المتفطرة السلية من خلال الدور الذي تلعبه التباينات الجينية والترتيبات الهيكلية في تعزيز مقاومتها للمضادات الحيوية وقدرتها على تحمل ظروف بيئية بالغة القسوة. ومع ذلك، كانت الأساليب التقليدية لفحص الحمض النووي تعتمد على مقاطع قصيرة، مما حدَّ من إمكانية اكتشاف التغيرات الكبيرة مثل العناصر المتنقلة وإعادة ترتيب الجينات على نطاق واسع. أما تقنيات الفحص التسلسلي الطويل فقد سمحت بتكوين "بان-جينوم"، وهو خريطة شاملة تجمع كل التباينات الجينية الخاصة بالبكتيريا بمختلف سلالاتها. أهمية هذا الإنجاز تكمن في قدرته على توضيح أن اختلاف السلالات يؤدي إلى تباين كبير في شدة المرض واستجابته للعلاج؛ ففي حين تتسبب بعض السلالات في أعراض خفيفة، قد تنتج سلالات أخرى مزودة بطفرات أكثر ضراوة حالات أشد خطورة أو مقاومة أكبر للأدوية.
وأظهرت هذه التقنية المتقدمة وجود تغييرات كبيرة مثل التكرارات، الحذوفات، الإدخالات، وحتى الانقلابات الجينية، وكثير منها يرتبط بعنصر متنقل يُدعى IS6110. يؤدي هذا العنصر إلى تغييرات في الجينات المجاورة له، مما يؤثر على عدد نسخ الجينات أو المناطق التنظيمية التي تتحكم في استقلاب الأدوية وتجنب تأثيراتها، ويسمح للبكتيريا باتباع مسارات بديلة تضمن بقاءها واستمرار مقاومتها.
يشير الباحثون إلى أن هذا الفهم الجديد للخصائص البيولوجية للمتفطرة السلية يمكن أن يمهد لتطوير أدوات تشخيص أكثر دقة وأساليب علاج أكثر فعالية لمكافحة الأشكال المقاومة للأدوية، بالإضافة إلى تطبيق هذه المعرفة في مواجهة أمراض أخرى تسببها كائنات دقيقة مشابهة.
















0 تعليق