خلال الجلسة العلمية الأولى بالندوة الدولية الثانية للإفتاء..
ناقش عددٌ من الباحثين والعلماء التحوُّلَ في دَور الفتوى من الإغاثة المؤقتة إلى الاستدامة والتَّمكين الاقتصادي، باعتباره مدخلًا أساسيًّا لمواجهة الفقر بصورة جِذرية تُحقق العدالة الاجتماعية وتدعم استقرار المجتمعات.
وذلك خلال الجلسة العلمية الأولى بالندوة الدولية الثانية للأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، والتي ترأسها الأستاذ الدكتور سلامة داود رئيس جامعة الأزهر.
وفي هذا الإطار، استعرض الدكتور مهاجري زيان، رئيس الهيئة الأوروبية للمراكز الإسلامية بجنيف، في بحثه المعنون بـ" من البيان الشرعي إلى الواجب الإنساني.. دور الفتوى والاجتهاد المعاصر في حماية المجتمعات المنكوبة"؛ مؤكدًا أن الفتوى لم تعُدْ مجرد بيان نظري، بل أداة فاعلة لتحويل المقاصد الشرعية إلى الْتزام إنساني عملي في أزمات غزة والسودان وسوريا واليمن، موضحًا أن التجربة الأوروبية قدمت أنموذجًا متقدمًا لدمج الفتوى بالعمل الميداني عبر برامج الإغاثة والعلاج والتواصل مع المنظمات الدولية، مستندة إلى النصوص الشرعية وقرارات المجامع الفقهية وتقارير الأمم المتحدة، مبرزًا في الوقت ذاته الجهود التي قامت بها دار الإفتاء المصرية والمؤسسات الإفتائية العالمية، في تأطير مفهوم الفتوى الإنسانية وحماية المدنيين وتجريم الإبادة والتجويع والدعوة إلى تضامن دولي عادل في زمن الحروب.

وفي الإطار ذاته، تناول الشيخُ محمد عبد الفتاح محمود عبد العال -الإمام والخطيب بوزارة الأوقاف- قضيةَ الفتوى ومواجهة الفقر من الإغاثة إلى الاستدامة؛ مؤكدًا أن الفتوى تؤدي دورًا محوريًّا في توجيه المجتمع إلى فقه الزكاة والصدقات، وتعزيز قِيَم التكافل والتراحم، ومعالجة القضايا الاقتصادية المعاصرة.
ولفَت النظر إلى أن للفتوى آثارًا اجتماعية واقتصادية مباشرة في تحقيق العدالة الاجتماعية، ودعم مبادرات الدولة والمجتمع المدني في مواجهة الفقر.
وفي الإطار ذاته، ناقش أشرف عبد المنعم أحمد -الإمام والخطيب بوزارة الأوقاف- دَوْرَ الفتوى في تعزيز الاستدامة التنمويَّة والتمكين الاقتصادي، موضحًا أن الفتوى المعاصرة مطالبة بتجاوز الإعانة المباشرة إلى توظيف الأصول المالية الإسلامية، كالزكاة والوقف والصدقات، في تأسيس مشروعات إنتاجية مستدامة تُحقق الاكتفاءَ الذاتي للمستحقين؛ مؤكدًا ضرورة تكامل المفتي مع الخبير الاقتصادي لتحقيق المقصد الشرعي من إعمار الأرض.
من جانبه، قدَّم الأستاذ الدكتور: فياض عبد المنعم حسانين، أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر، والمستشار المالي لدار الإفتاء المصرية -رؤيةً تحليلية لدَوْر الفتوى الشرعية في استدامة مكافحة الفقر؛ مؤكدًا أن القضاء على الفقر يتطلَّب إستراتيجية مستدامة يكون للفتوى فيها دورٌ دائمٌ بوصفها ركيزةً أساسية في تعبئة طاقات المؤسسات والأفراد، وتوجيه السياسات الشرعية نحو أولوية القضاء على الفقر.

ومن جانبه، أكد الدكتور عبد الله النجار الأستاذ بكلية الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر الشريف وعضو مجمع البحوث الإسلامية أن مفهوم التنمية المستدامة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتتابع الأجيال وضمان حقوقها في الحياة الكريمة، موضحًا أن هذا المعنى أصَّله الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه برؤيته المستقبلية العميقة حين قرر أن للأجيال القادمة حقًّا أصيلًا لا يجوز التفريط فيه، وهو ما يؤكده التوجيه النبوي الشريف في قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها قبل أن تقوم فليفعل"؛ بما يعكس ترسيخ الإسلام لقيم العمل والاستمرار وتحمل المسؤولية تجاه المستقبل، كما أشار إلى أن القرآن الكريم أثنى على هذا الوعي الممتد عبر الأجيال في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10].

وبيَّن الدكتور النجَّار أن التنمية المستدامة تفرض على الأمم أن تغرس القيم وتؤدي الحقوق دون انتظار ثمار عاجلة أو عوائد قريبة، لأن العائد الحقيقي قد يكون من نصيب الأجيال القادمة، مشيرًا إلى أن العلماء اختلفوا في تقديم حق الله أو حق العباد، فذهب بعضهم إلى تقديم حق الله، بينما قدَّم آخرون حق العباد لتعلقه بالمصلحة العامة وحقوق الأجيال، مستشهدًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اقضوا الله فالله أحق بالوفاء".
وأكد في ختام كلمته ضرورة التمييز الدقيق بين النظرة الشرعية المتكاملة ومجرد التشريعات الوضعية عند تناول قضايا التنمية والحقوق، مشددًا على أن الرؤية الإسلامية تقوم على تحقيق العدل والاستدامة وصيانة حقوق الحاضر والمستقبل في آنٍ واحد.
جدير بالذِّكر، أن الندوة الدولية الثانية للأمانة العامة ودُور وهيئات الإفتاء في العالم، تأتي ضمن سلسلة الفعاليات والأنشطة العلمية والفكرية التي تُنظمها دارُ الإفتاء المصرية، في إطار حرصها على تعزيز قنوات التَّواصُل والحوار، وترسيخ دور الإفتاء المؤسسي في معالجة قضايا الواقع المعاصر.















0 تعليق