قال رئيس اتحاد الصيادين فى قطاع غزة، زكريا بكر، إن تكلفة إعادة تأهيل قطاع الصيد المدمر فى غزة تتراوح بين ١٠٠ و١٢٠ مليون دولار، خاصة مع تدمير المراكب والبنية التحتية والمرافئ، مشيرًا إلى أن توقف الصيد تسبب بخسائر تبلغ نحو ٧ ملايين دولار شهريًا، وهى قيمة الإنتاج الذى يتعذر تحقيقه بسبب إغلاق البحر.
وأضاف، لـ«الدستور»، أن قطاع الصيد فى قطاع غزة يعد أحد أهم القطاعات الاقتصادية؛ إذ يعمل به نحو ٤ آلاف و٥٠٠ صياد بشكل مباشر، إضافة إلى أكثر من ألفىّ عامل من الطواقم البحرية والمهنيين الذين يعملون فى تجهيز القوارب وصيانة معدات الصيد.
وواصل: «قبل الحرب، كان هذا القطاع يعتمد على أسطول يضم نحو ١٫٩٠٠ قارب، منها مراكب صغيرة ولانشات وقوارب تجارية تشكّل شريان حياة آلاف العائلات التى تعتمد على البحر كمصدر رزق وحيد، لكن منذ سنوات طويلة، يخضع هذا القطاع لحصار بحرى هو الأطول من نوعه على ساحل مدنى فى التاريخ المعاصر»، لافتًا إلى أن الاحتلال الإسرائيلى مارس سياسة ممنهجة لتدمير هذا القطاع الحيوى حتى قبل حرب الإبادة الأخيرة؛ عبر التلاعب المستمر بمسافات الصيد، من ١٢ ميلًا إلى ٣ أميال، وصولًا إلى إغلاق البحر بالكامل لفترات طويلة دون سابق إنذار.
وتابع: «الصيادون كانوا يتعرضون بشكل شبه يومى لعمليات مطاردة شرسة تؤدى إلى قتل وإصابة واعتقال العشرات، إضافة إلى مصادرة القوارب ونقلها إلى ميناء أسدود، ما يعنى قطع رزق الصياد مباشرة»، مشيرًا إلى أن الاحتلال كان يمنع دخول معدات الصيد الأساسية إلى غزة؛ مثل المحركات والألياف الزجاجية والشباك وقطع الغيار، وهو ما جعل الصيادين يعملون بوسائل متهالكة ومحدودة.
وذكر أن حرب الإبادة كانت الضربة الأشد التى قصمت ظهر قطاع الصيد بالكامل، موضحًا: «منذ اليوم الأول للحرب، أعلن الاحتلال عن إغلاق البحر فى وجه الصيادين بشكل تام، ثم سرعان ما بدأت الطائرات الحربية والزوارق البحرية بقصف المرافئ والمواقع المرتبطة بالقطاع البحرى، وجرى استهداف جميع مرافق الصيادين الخمسة على طول الساحل، إضافة إلى ميناء غزة الرئيسى».
وبين أن الاحتلال دمر خلال الأسابيع الأولى وحدها سوق الدلالة «الحسبة البحرية»، ومصانع الثلج التى تحفظ الأسماك، وغرف التخزين ومخازن المعدات، ومحطات الطاقة الشمسية التى يعتمد عليها الصيادون، وورش التصليح، ومئات القوارب بالكامل، لافتًا إلى أنه فى اليوم السادس من الحرب، تعرض لسان ميناء غزة لقصف مباشر بـ٢٦ صاروخًا من طائرات F-16، ما أدى إلى شطره نصفين وخلق حفرة طولها نحو ٢٠ مترًا، وقال: «لم يتركوا للصيادين شيئًا.. حتى الميناء نفسه اختفى، كما استخدمت إسرائيل طائرات الكواد كابتر، لإلقاء قنابل حارقة مباشرة على القوارب لإحراقها بالكامل».
وأضاف أن حرب الإبادة خلفت خسائر بشرية هائلة فى صفوف الصيادين؛ فقد ارتقى ٢٣٠ صيادًا شهيدًا، بينهم ٦٥ صيادًا قُتلوا، بينما كانوا يحاولون جلب كيلوجرامات قليلة من الأسماك من المناطق الساحلية الضيقة، فى ظل المجاعة التى ضربت القطاع بأكمله.
وقال: «أُصيب عشرات الصيادين بجروح خطيرة، بعضها أدّى إلى بتر الأطراف، بينما اعتُقل نحو ٦٠ صيادًا خلال الحرب، وبعد اتفاق وقف إطلاق النار الأخير وقبل ٥٢ يومًا فقط، اعتقل الاحتلال ٢٠ صيادًا آخرين ما زالوا رهن الاحتجاز دون معلومات واضحة لعائلاتهم، ومن بينهم الريس أبو أدهم، الذى اعتُقل أبناؤه الثلاثة دفعة واحدة».
وأضاف: «على الرغم من مرور أسابيع على اتفاق التهدئة، فإن البحر لا يزال مغلقًا بشكل كامل أمام الصيادين، ورغم ذلك دفع الفقر المدقع والمجاعة مئات الصيادين إلى محاولة العودة إلى البحر بطرق بدائية وخطيرة، فقد اضطروا إلى صناعة قوارب من ألواح الفلين، وأبواب الثلاجات والبراميل، وبقايا القوارب المحترقة، وأعادوا استخدام تنكات الفيبر لصنع هياكل عائمة، وهى وسائل استخدمت لأول مرة قبل نحو عام ونصف عندما بدأ الحصار البحرى يشتد قبل الحرب، كما جمعوا شباكًا من بقايا محروقة وممزقة، خيطًا فوق خيط، ليتمكنوا من الصيد ولو فى نطاق لا يتجاوز نصف ميل بحرى».
وواصل: «اليوم، لا يعمل فى البحر سوى ٤٠٠ إلى ٤٥٠ صيادًا فقط، جميعهم يستخدمون قوارب بدائية للغاية، ويواجهون خطر القتل أو الاعتقال فى كل لحظة، إذ تبقى الزوارق الحربية الإسرائيلية على مسافة قريبة تراقبهم وتستهدفهم عند أى اقتراب من المجال الممنوع».
وأشار إلى أن قبل الحرب، كان قطاع غزة ينتج بين ٣ آلاف و٣ آلاف و٥٠٠ طن من الأسماك سنويًا، أما اليوم، فإجمالى الإنتاج لا يتجاوز ٢٪ فقط من الإنتاج المعتاد، وهو انهيار شبه كامل فى الأمن الغذائى البحرى، يضاف إلى كارثة المجاعة التى يعيشها القطاع.
وذكر أن الكثير من الصيادين الذين فقدوا منازلهم واضطروا لإقامة خيام فوق ركام بيوتهم، بينما لجأ آخرون إلى نصب خيام على الشاطئ قرب أماكن عملهم السابقة، ومع ذلك يظل هؤلاء عاجزين عن ممارسة مهنتهم الأصلية، فالصياد لا يعرف مهارة أخرى، ولا يمتلك خبرة خارج البحر.
ولفت إلى أنه مع تلاشى مصادر الدخل، لجأ كثيرون إلى أعمال مؤقتة كبيع الأسماك فى الأسواق، وتنظيف الأسماك مقابل مبالغ زهيدة، أو بيع الخضار فى شوارع المدينة، لكن هذه المحاولات لا توفر حياة كريمة، فى ظل غياب دخل ثابت وارتفاع معدلات الفقر والمجاعة، وتعيش أغلب عائلات الصيادين اليوم على المساعدات المحدودة التى يقدمها برنامج الغذاء العالمى وبعض الجمعيات.
ونوه بأن إعادة إصلاح قطاع الصيد المدمر كليًا ليست مهمة بسيطة، لكنها ممكنة إذا توفرت ثلاثة شروط رئيسية؛ وهى إرادة حقيقية للعمل، ووجود مانحين قادرين على تمويل إعادة التأهيل، وسماح الاحتلال بإدخال المعدات اللازمة، ومتى توفرت هذه العناصر، يمكن أن تعود المراكب الصغيرة للعمل خلال فترة تتراوح بين عام وعامين.
ولفت إلى أن «اللنشات الكبيرة والمراكب الخشبية الثقيلة تحتاج إلى وقت أكبر للتعافى، ليس فقط بسبب حجم الضرر، بل لأن غزة فقدت آخر صانعى المراكب الخشبية خلال الحرب الأخيرة».
وقال إن الحرفيين الذين حافظوا على هذه الصناعة عبر عقود قد توفوا جميعًا، ما يجعل إعادة بناء هذه الفئة من المراكب مستحيلة داخل القطاع فى الوقت الحالى، لهذا لا بد من تصنيع المراكب الكبيرة فى مصر ثم إدخالها إلى غزة.
ورأى أن استمرار إغلاق البحر بعد الحرب ليس قرارًا أمنيًا فقط، بل هو جزء من سياسة أشمل للضغط على السكان عبر ما يسميه بـ«هندسة المجاعة»، فبعد أن صنفت الأمم المتحدة قطاع غزة كمنطقة مجاعة، وبدأ الضغط الدولى يتصاعد على إسرائيل، لجأت الأخيرة إلى نموذج جديد يقوم على التحكم فى نوعية السلع التى تدخل إلى القطاع، وليس فقط فى كمياتها.
وأضاف أن البحر نفسه الذى يشكل المصدر شبه الوحيد للبروتين الحيوانى المحلى أصبح جزءًا من هذه السياسة، فإغلاقه ليس مجرد عقوبة للصيادين، بل إغلاقه تجويع لمئات الآلاف من العائلات.
وقال إن لدى الاحتلال دوافع اقتصادية واضحة، خاصة بعد الاكتشافات المتزايدة لحقول الغاز فى البحر قبالة غزة، موضحًا: «الصراع مع الصيادين لم يكن يومًا مجرد صراع حدود بحرية، هناك صراع على الخيرات داخل البحر بعد اكتشافات الغاز، وهذا جزء أساسى من أسباب التشديد».
وعن الدعم الخارجى، قال: «لم يصل أى نوع من المساعدات المخصصة للصيادين، لا من سلطات فلسطينية ولا من جهات دولية، فحتى كلمة الصيد لم تُذكر فى أى خطاب رسمى حول الإغاثة أو إعادة الإعمار، وما وصل للصيادين حتى الآن يقتصر على مساعدات غذائية تقدمها بعض المؤسسات الأهلية أو برنامج الغذاء العالمى، وهى مساعدات لا تكفى لسد احتياجات عائلات فقدت كل شىء». وكشف عن أنه قبل أيام فقط عُقد اجتماع مع منسق الشئون الإنسانية للأمم المتحدة فى غزة، الذى وعد بأن قضية الصيادين ستكون حاضرة، لكن حتى اللحظة، تبقى هذه الوعود مجرد كلام، دون أى خطوة عملية أو خط زمنى واضح. وتابع: «حتى فى ملف الإعمار لم نرَ شيئًا، المراكب لا تزال غارقة فى الميناء، ولسان الميناء لا يزال مشطورًا إلى نصفين، ولا أحد تحرك.. الجميع ينتظر المرحلة الثانية؛ مرحلة إعادة الإعمار، لكن حتى الآن لا يوجد شىء على الأرض».













0 تعليق