أثناء دراساتى العليا فى كندا، سمعت عن طالب دكتوراه اضطر إلى تأجيل تخرجه لسنوات طويلة، إذ كان يخشى دائماً أن تكون رسالته العلمية أقل من الكمال الذى يطمح إليه. هذه القصة لم تكن مجرد حالة فردية، بل انعكاس حقيقى لشعور يعيشه كثيرون: الخوف المستمر من الفشل، والشعور بعدم الكفاية، والسعى الذى لا ينتهى وراء الكمال.
فى عالم يربط النجاح بالكمال، أصبح كثيرون يعيشون تحت وطأة شعور دائم بعدم الكفاية، فالمثالية، التى قد تبدو محفزاً للتميز، تتحول فى الواقع إلى عبء نفسى واجتماعى يرهق الأفراد ويهدد صحتهم العقلية. يشعر الإنسان بأنه فاشل، يتأخر عن الآخرين، ويخيب آمال من حوله، ما يخلق دائرة مفرغة من القلق والاكتئاب.
ليست المثالية مجرد مسألة شخصية، بل لها جذور تاريخية وثقافية عميقة، ففى الغرب، طلب فرانز كافكا من أقاربه حرق مؤلفاته بعد وفاته لأنها لم ترقَ إلى مستوى الكمال الذى يطمح إليه. وفى الشرق، أحرق أبو حيّان التوحيدى كتبه خشية أن تُعتبر دون مستوى طموحه. وقد عبّر التوحيدى عن ذلك بقوله:
«ثم اعلم علمك الله الخير أن هذه الكتب حوت من أصناف العلم سره وعلانيته، فأما ما كان سراً فلم أجد له من يتحلى بحقيقته راغباً، وأما ما كان علانية فلم أصب من يحرص عليه طالباً... وكيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين سنة فما صح لى من أحدهم وداد؟».
هاتان الحالتان تبرزان جانباً من المثالية: الخوف من العيب والفشل الذى قد يدفع العباقرة أنفسهم إلى رفض أعمالهم، رغم قيمتها الإبداعية والمعرفية.
تشير الدراسات الحديثة إلى ثلاثة أشكال من المثالية: المثالية الذاتية، حيث يفرض الفرد الكمال على نفسه؛ المثالية الموجهة للآخرين، حيث يتوقع الكمال من المحيطين به (ألا يذكرنا هذا بالوالدين فى عائلاتنا المصرية؟ّ!) ؛ والمثالية الاجتماعية المفروضة، التى تجعل الفرد يعتقد أن المجتمع يطالبه بالكمال. وقد شهد النوع الأخير ارتفاعاً ملحوظاً خلال العقود الماضية، بفعل ضغوط اجتماعية واقتصادية متزايدة تجعل آلافراد يشعرون بأن قيمتهم مرتبطة بأدائهم، وهو ما يستغله النظام الرأسمالى لتحقيق الأرباح.
الحل، بحسب الخبراء، يكمن فى مفهوم mattering، أى الشعور بالقيمة الذاتية والاعتراف بمساهمة الفرد بعيداً عن الإنجازات فقط. كما يُنصح بتحويل الطاقة نحو الإتقان والوعى الذاتى، وقبول الفشل كفرصة للتعلم، وتعزيز العلاقات المبنية على الثقة والدعم المتبادل. فالمفتاح ليس التخلّى عن الطموح، بل إيجاد التوازن بين السعى للتعلم والنجاح دون الانغماس فى دوامة القلق المستمر.
فى نهاية المطاف، المثالية ليست عدواً لنا لا يمكن التغلب عليه، بل تحدٍ يحتاج إلى وعى وممارسة مستمرة. من خلال إعادة تعريف قيمتنا الجوهرية، والاحتفاء بالتجربة والفشل كفرصة للتعلم، يمكننا تحويل ضغط الكمال إلى قوة تدفعنا نحو حياة متوازنة وذات معنى، بعيداً عن الفخ النفسى الذى يختبئ وراء صورة الكمال المستحيل.
















0 تعليق