عغ

الوفد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لم يعرف الطبّ، في أغلب تاريخه، كيف يرى الإنسان كاملاً، إذ كان يرى أجزاءً متناثرة من الحكاية: صورة أشعة معزولة، تحليل دم بلا سياق، تقريراً سريرياً يُقرأ سريعاً ثم يُطوى. وهكذا تفرّق الجسد إلى ملفات، وتحوّل المريض إلى أرشيف بيانات، وغابت الصورة الكاملة خلف زحمة التفاصيل..

كان ابن رشد سيصف هذا المشهد بلا تردّد: حيثما غاب الربط، تكسّرت الحقيقة. فالعِلّة لا تُفهم دون معلولها، والمرض لا يُقرأ دون سياقه، والإنسان لا يُختزل في رقم أو صورة.
اليوم، ومع صعود ما يُعرف بالذكاء الاصطناعي التعدّدي (Multimodal AI)، يقف الطبّ أمام لحظة استثنائية تُعيد للإنسان وحدته المفقودة. لم تعد الخوارزمية تكتفي بقراءة صورة أو تحليل أو نصّ منفرد، بل باتت قادرة على دمج الإشارات الحيوية، والصور الشعاعية، والسجلات السريرية، وحتى اللغة التي يصف بها المريض ألمه... لتصوغ فهماً أقرب إلى ما كان يفعله الطبيب الحكيم بالفطرة: رؤية المريض ككائن واحد، لا كمجموعة بيانات مبعثرة.
ولا ينتمي هذا التحوّل إلى الخيال العلمي، بل إلى مختبرات البحث المتقدّمة. ففي دراسة حديثة صادرة عن جامعة بنسلفانيا، نُشرت في فبراير (شباط) 2025 في مجلة «npj Digital Medicine» (الطبّ الرقمي – إحدى مجلات مجموعة «نيتشر» العلمية)، قدّم الباحثون إطاراً جديداً يسمح بدمج الصور الطبية، والسجلات السريرية، والبيانات الحيوية، والنصوص الطبية، لقراءة المريض بوصفه وحدة متكاملة لا ملفات منفصلة محفوظة في ذاكرة الحاسوب.
العلم الذي جمّع ما فرّقته السجلات.

تستقبل الخوارزمية الحديثة، في اللحظة نفسها، صور الأشعة، ونتائج التحاليل المخبرية، والإشارات الحيوية، والنصوص الطبية، وحتى البيانات القادمة من الساعات الذكية والأجهزة القابلة للارتداء. ثم لا تكتفي بقراءتها، بل تُعيد نسجها في صورة واحدة متكاملة، أشبه بخريطة حيّة للجسد والزمن معاً.
لم يعد التشخيص تفسيراً لصورة ثابتة، بل هو فهم لمسار حياة كاملة.

وهنا تكمن القفزة: فالنظام الصحي التقليدي اعتاد العمل بمنطق «الوسيط الواحد»؛ طبيب الأشعة يرى الصورة، طبيب القلب يقرأ التخطيط، وطبيب المختبر يلاحق المؤشرات. غير أن المرض لا يحترم هذه الحدود، إذ لا يولد في عضو واحد، ولا يتقدّم في مسار منفصل، بل يعلن عن نفسه من خلال تفاعل خفي بين الإشارات.

بهذا المعنى، لا يجمع الذكاء الاصطناعي التعدّدي البيانات فحسب، بل يعيد للطب لغته الأصلية: لغة الترابط.

• من رؤية اللحظة إلى رؤية الزمن. في إحدى التجارب السريرية المتقدّمة، استطاع نموذج ذكاء اصطناعي توقّع احتمالية ظهور مرض قلبي قبل نحو ثماني سنوات من تشخيصه السريري. ولم يلتقط علامة واحدة حاسمة فقط، بل التقط شبكة دقيقة من التغيّرات الصغيرة التي تبدو — كلٌّ على حدة — بلا معنى، لكنها حين تُقرأ معاً ترسم بداية الخلل الصامت.
إنقاذ المريض وإنقاذ الطبيب.

تشير تقارير صادرة عن «Harvard Medical School» في ديسمبر ( كانون الأول) 2025 إلى أن الطبيب يقضي أكثر من ثلاث ساعات يومياً في كتابة الملاحظات وتوثيق السجلات، وقتاً يفوق أحياناً زمن الإصغاء للمريض نفسه. وهنا لا يكون الإرهاق مهنياً فقط، بل يكون إنسانياً أيضاً. أما حين تُدمج البيانات تلقائياً داخل نموذج ذكي واحد، فسوف يتحرّر الطبيب من عبء الورق والتكرار، ويستعيد جوهر مهنته: اللقاء، الإصغاء، والفهم. فالخوارزمية تحسب وتربط، لكنها لا تعرف القلق في عين المريض، ولا التردّد في صوته. الآلة تُحلّل والإنسان يُنصت.
كيف ستتغيّر العيادة؟ لم تعد العيادة الحديثة مجرّد مكان للفحص، بل نقطة التقاء لأنواع متعددة من الذكاء؛ حيث يعمل الذكاء الاصطناعي التعدّدي في الخلفية على دمج الصور، والتحاليل، والسجلات، والسلوك الصحي اليومي في نموذج واحد، يرافق المريض والطبيب معاً، ويُعيد تشكيل القرار الطبي من جذوره. وهكذا نلاحظ:
اختفاء «المريض المُجزّأ».

- التشخيص يصبح تفسيراً للعلاقات.

- العلاج يصبح شخصياً بأعلى درجاته.

- انخفاضاً كبيراً في الأخطاء الطبية.

• من ورق العيادة إلى خريطة الإنسان.

أخبار ذات صلة

0 تعليق