في خطوة أثارت جدلًا واسعًا داخل أوساط المال والأعمال والعمل الخيري، أعلن الملياردير الأمريكي لاري إليسون، المؤسس الشريك لشركة أوراكل وأحد أغنى رجال العالم، عن تعهده بضخ 40 مليار دولار من ثروته الشخصية لدعم صفقة استحواذ تقودها شركة Skydance المملوكة لنجله ديفيد إليسون على مجموعة Paramount الإعلامية.
الإعلان لم يكن مجرد خبر اقتصادي ضخم، بل كشف عن تحوّل عميق في فلسفة العطاء لدى كبار المليارديرات، فيما بات يُعرف اليوم باسم الرأسمالية الخيرية.
الخطوة، التي جاءت على هيئة ضمان شخصي لتمويل الصفقة من خلال مزيج من الأسهم والديون، لا تُصنّف كتبرع خيري تقليدي. فهي لا تمر عبر مؤسسة غير ربحية، ولا تذهب إلى برامج اجتماعية مباشرة، بل تُوظَّف داخل السوق نفسها، وتحديدًا في صناعة الإعلام والترفيه، بهدف إعادة تشكيل واحدة من أعرق مؤسسات هوليوود.
لطالما ارتبط العمل الخيري بأسماء مثل بيل غيتس ووارن بافيت، حيث تذهب المليارات إلى مؤسسات خيرية ومنظمات مجتمع مدني تعمل في مجالات الصحة والتعليم ومكافحة الفقر. لكن ما يفعله إليسون يعكس توجهًا مختلفًا تمامًا. فبدلًا من توزيع الأموال خارج المنظومة الاقتصادية، يفضّل ضخها في صفقات كبرى يراها قادرة على إصلاح الأنظمة من الداخل.
في حالة Paramount، يرى إليسون أن دعم ابنه في بناء كيان إعلامي أكثر حداثة، يعتمد على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي ومنصات البث، يمثل مساهمة طويلة الأمد في مستقبل الثقافة والإعلام، حتى وإن كان ذلك عبر صفقة تجارية بحتة.
يكتسب هذا التعهد وزنه الحقيقي عند وضعه في سياق أوسع. فإليسون، البالغ من العمر 81 عامًا، سبق أن أعلن التزامه بالتبرع بما لا يقل عن 95 في المئة من ثروته، التي تُقدّر بمئات المليارات من الدولارات. لكن ما تكشفه صفقة Paramount هو الطريقة التي ينوي بها الوفاء بهذا التعهد.
بدلًا من المنح التقليدية، يبدو أن إليسون يراهن على الاستثمار في كيانات ضخمة يعتقد أنها قادرة على إحداث تأثير بنيوي، سواء في مجالات الطب المتقدم، أو أبحاث الذكاء الاصطناعي، أو الآن في صناعة الإعلام العالمي.
هذا النهج يضع إليسون على النقيض من شخصيات مثل ماكينزي سكوت، التي أصبحت رمزًا لنمط مختلف من العطاء، يعتمد على تقديم تبرعات مباشرة وغير مشروطة لآلاف المؤسسات، مع التركيز على المجتمعات المهمشة والمنظمات المحلية. فلسفتها تقوم على الثقة في القائمين على العمل الميداني، وتقليص دور المانح في توجيه القرار.
في المقابل، يتبنى إليسون نموذجًا أقرب إلى عالم الشركات، حيث يظل المال مرتبطًا بهياكل يملك فيها نفوذًا أو رؤية واضحة، ويُستخدم لإعادة تشكيل قطاعات كاملة بدل دعم مبادرات صغيرة داخلها.
إليسون ليس حالة فريدة. فمبادرات مثل Chan Zuckerberg Initiative التي يقودها مارك زوكربيرغ وزوجته بريسيلا تشان، تسير في الاتجاه نفسه، حيث تختلط الاستثمارات بالأهداف الخيرية، ويصبح بناء المنصات والبنية التحتية العلمية أولوية على حساب المنح التقليدية.
هذا الانقسام بات واضحًا داخل عالم الأثرياء: فريق يرى أن التغيير الحقيقي يأتي من تمويل المجتمعات مباشرة، وفريق آخر يعتقد أن إصلاح الأنظمة الكبرى يتطلب السيطرة على مفاصلها الاقتصادية والتكنولوجية.
رغم جاذبية هذا النموذج، يثير تساؤلات حساسة حول السلطة والمصلحة العامة. فعندما يُقدَّم دعم صفقة إعلامية ضخمة باعتباره مساهمة في الصالح العام، من يحدد حجم هذا النفع؟ وهل يمكن مقارنة أثر تعزيز كيان إعلامي عالمي بأثر تمويل برامج مكافحة الفقر أو دعم الصحافة المستقلة؟
في حالة Paramount، ستكون النتائج مرتبطة بأسعار الاشتراكات، وسياسات المحتوى، وعلاقات العمل داخل هوليوود، وهي قضايا معقدة لا تخضع لمنطق العمل الخيري التقليدي.
رهان لاري إليسون البالغ 40 مليار دولار يتجاوز كونه دعمًا لنجله أو صفقة استثمارية جريئة. إنه إعلان صريح عن شكل جديد من العطاء، حيث تنتقل الخيرية من دفاتر المؤسسات غير الربحية إلى أوراق الصفقات الكبرى. في هذا النموذج، لا يغادر المال النظام الذي وُلد فيه، بل يُعاد توظيفه داخله، في محاولة لإعادة كتابة قواعده. وبين مؤيد يرى فيه طريقًا أسرع للتغيير، وناقد يحذر من تركيز النفوذ، يبقى المؤكد أن مفهوم العمل الخيري لم يعد كما كان.


















0 تعليق