في لحظة خاطفة، انقلب مشهد الفرح إلى فاجعة، وتحوّل شاطئ بوندي، أحد أكثر الأماكن حيوية وأمانًا في سيدني، إلى مسرح للدم والرعب. مساء 14 ديسمبر 2025، دوّى الرصاص وسط احتفال ديني مفتوح، لتُكسَر واحدة من أكثر المسلّمات رسوخًا في الوعي الأسترالي: أن قوانين السلاح الصارمة قادرة وحدها على تحصين المجتمع من العنف المنظّم.
الهجوم، الذي وُصف بأنه الأعنف في أستراليا منذ مذبحة بورت آرثر عام 1996، لم يكن مجرد واقعة أمنية دامية، بل صدمة وطنية أعادت فتح ملفات ظُنّ طويلًا أنها أُغلقت: كيف يتسلّل الإرهاب إلى مجتمعات مستقرة؟ وأين تقف حدود الردع الأمني في مواجهة تطرف يتغذّى على الكراهية والرمزية الدينية؟
ومع تزايد أعداد الضحايا، واتساع نطاق التحقيقات، تحوّل هجوم بوندي من جريمة محلية إلى قضية سياسية وإعلامية دولية، تختلط فيها الأسئلة الأمنية بالتداعيات المجتمعية، وتتصادم فيها الروايات الإعلامية، في وقت بات فيه الإرهاب أكثر قدرة على التكيّف مع البيئات الآمنة، وأكثر خطورة في استهدافه للرموز والاحتفالات الجماعية.
عملية مدروسة ورسالة دموية
لم يكن الهجوم الذي ضرب شاطئ بوندي فعلًا عشوائيًا أو اندفاعًا لحظيًا، بل بدا منذ لحظاته الأولى عملية مدروسة بعناية، حملت في طياتها رسالة دموية تتجاوز القتل إلى الرمزية والتأثير النفسي. اختيار الموقع لم يكن اعتباطيًا؛ فشاطئ بوندي يُعد أحد أكثر الأماكن شهرة واكتظاظًا في سيدني، ورمزًا للحياة اليومية الآمنة والانفتاح الاجتماعي في أستراليا، ما جعل استهدافه بمثابة كسر متعمّد لصورة “الملاذ الآمن” التي طالما ارتبطت بالمدينة والبلاد عمومًا.
أما التوقيت، فجاء أكثر دلالة من المكان ذاته. تنفيذ الهجوم بالتزامن مع اليوم الأول من عيد الحانوكا، وأثناء فعالية دينية مفتوحة شارك فيها أكثر من ألف شخص من العائلات والأطفال، يعكس نية واضحة في استهداف جماعي لهوية دينية بعينها، وتحويل مناسبة احتفالية إلى مسرح للرعب. هذا التزامن الزمني لا يمكن فصله عن البعد الدعائي للعملية، إذ سعى المنفذون إلى تعظيم الصدمة والانتشار الإعلامي، وإيصال رسالة كراهية تتجاوز حدود المكان والزمان.
تفاصيل التنفيذ عززت هذا الانطباع. روايات الشهود تحدثت عن إطلاق ما يصل إلى خمسين طلقة نارية خلال فترة قصيرة تراوحت بين خمس وعشر دقائق، من موقع مرتفع يطل مباشرة على التجمعات البشرية في الأسفل. هذا الموقع منح المهاجمين أفضلية تكتيكية، وحوّل الحشود إلى أهداف مكشوفة، في مشهد وصفه أحد الناجين بعبارة قاسية: “إطلاق نار على أسماك في برميل”، في إشارة إلى انعدام فرص النجاة في اللحظات الأولى.
ومع سقوط الضحايا تباعًا، عمّت حالة من الذعر الجماعي، حيث اندفع المحتفلون للفرار عبر الرمال والشوارع المحيطة، في فوضى اختلطت فيها صرخات الأطفال بأصوات الرصاص. مشاهد الجثث الملقاة على الأرض، والناس المختبئين خلف الحواجز المؤقتة، شكّلت صدمة مضاعفة في مكان يُفترض أنه من أكثر المواقع أمانًا وحيوية في أستراليا. هكذا، لم يقتصر أثر الهجوم على عدد الضحايا، بل امتد ليصيب الإحساس الجمعي بالأمان في الصميم.
حصيلة ثقيلة وتحقيق مفتوح
خلّف الهجوم حصيلة ثقيلة أربكت المشهد منذ الساعات الأولى، إذ تفاوتت الأرقام الرسمية للضحايا بين 11 و12 قتيلًا، إلى جانب 29 جريحًا، بينهم أطفال وشرطيان كان أحدهما في حالة حرجة عقب خضوعه لجراحة عاجلة. هذا التباين في الأرقام لم يكن مجرد ارتباك إحصائي، بل عكس حجم الفوضى التي أعقبت إطلاق النار، وصعوبة حصر الضحايا في موقع مفتوح يعج بالمدنيين والسياح في توقيت ذروة النشاط المسائي.
الهوية المتنوعة للضحايا أضافت بعدًا أكثر تعقيدًا للمأساة. فقد شملت قائمة القتلى رجل دين يهوديًا بارزًا مرتبطًا بمنظمة تشاباد، ومواطنًا إسرائيليًا، إضافة إلى أحد منفذي الهجوم نفسه، وهو ما أبرز تشابكًا واضحًا بين البعد الأمني والبعد الديني والسياسي. هذا التداخل جعل الحادثة تتجاوز إطار الجريمة المحلية، لتتحول إلى قضية ذات أصداء إقليمية ودولية، خصوصًا في ظل تصاعد التوترات المرتبطة باستهداف الجاليات اليهودية حول العالم.
ومع تقدم التحقيقات، بدأت تتكشف ملامح تخطيط مقلقة، تنفي فرضية الفعل الفردي المعزول. فقد تأكد أن الهجوم نفذه منفذان مسلحان ببنادق نصف آلية، كما عثرت الشرطة على عبوات ناسفة بدائية داخل سيارة مرتبطة بأحدهما، جرى تفكيكها قبل أن تتسبب في مزيد من الخسائر. إلى جانب ذلك، تدرس السلطات بجدية احتمال وجود منفذ ثالث، في ضوء معطيات استخباراتية ومداهمات جارية في مناطق بعيدة عن موقع الهجوم.
الأكثر إثارة للقلق أن التحقيقات أظهرت أن أحد المنفذين كان معروفًا مسبقًا لجهاز الاستخبارات الأسترالي (ASIO)، من دون أن يُصنّف كتهديد وشيك يستدعي تدخلاً وقائيًا. هذه الحقيقة فجّرت تساؤلات حادة داخل الأوساط السياسية والأمنية حول فعالية آليات التقييم الاستخباراتي، وحدود القدرة على التمييز بين الأشخاص الخاضعين للرصد والذين قد يتحولون فجأة إلى منفذين لعمليات دامية. كما أعادت إلى الواجهة إشكالية الفجوة الخطيرة بين الرصد المبكر والمنع الفعلي، وهي فجوة لطالما شكّلت التحدي الأكبر في مواجهة الإرهاب المعاصر.
بطولة فردية… وفشل جماعي؟
وسط الفوضى والهلع اللذين أعقبا إطلاق النار، برزت لحظة استثنائية كسرت تسلسل الرعب. مدني أعزل، وجد نفسه وجهًا لوجه مع أحد المهاجمين في موقف سيارات قريب من موقع الهجوم، تمكّن في لحظة خاطفة من تجريد المسلح من سلاحه ومنعه من مواصلة إطلاق النار. هذا التصرف، الذي وصفته السلطات الأسترالية رسميًا بأنه أنقذ عشرات الأرواح، تحوّل سريعًا إلى رمز للشجاعة الفردية في مواجهة عنف منظم لا يرحم.
غير أن الإشادة الواسعة بهذه البطولة لم تحجب الأسئلة الثقيلة التي أعقبتها. فحين تتحول الصدفة وشجاعة الأفراد إلى خط الدفاع الأخير أمام الإرهاب، يبرز تساؤل مقلق حول قصور الوقاية المؤسسية. الاعتماد على مبادرات فردية بطولية، مهما بلغت أهميتها، لا يمكن أن يكون بديلًا عن منظومة أمنية قادرة على التنبؤ بالخطر واحتوائه قبل أن يتحول إلى مجزرة.
وفي هذا السياق، أعاد هجوم بوندي التأكيد على أن الإرهاب لم يعد يأتي دائمًا من الخارج أو عبر شبكات عابرة للحدود، بل بات يتخذ شكل إرهاب محلي المنشأ. المنفذون عاشوا داخل المجتمع الأسترالي، وتحرّكوا في فضاء مفتوح، ما يعكس تحوّلًا خطيرًا في طبيعة التهديد، حيث تصبح البيئات المستقرة نفسها حاضنة محتملة للعنف المتطرف إذا لم تُعالَج جذوره الفكرية والاجتماعية.
كما كشف الهجوم عن تسييس متزايد للكراهية، إذ ارتبط في الخطاب العام بتصاعد معاداة السامية في أستراليا، خصوصًا بعد قرارات سياسية أثارت جدلًا داخليًا وخارجيًا. هذا الربط يوضح كيف يمكن للقضايا الجيوسياسية البعيدة أن تتحول، عبر خطاب التحريض والاستقطاب، إلى دافع مباشر للعنف داخل المجتمعات الغربية، وهو مسار خطير يختزل الصراعات الدولية في أفعال انتقامية محلية.
استهداف مناسبة دينية مفتوحة لم يكن تفصيلًا عابرًا، بل جزءًا من نمط إرهابي متكرر عالميًا، يقوم على ضرب التجمعات ذات الطابع الرمزي والوجداني. فالهجوم على الأعياد والمناسبات الدينية لا يهدف فقط إلى إيقاع أكبر عدد من الضحايا، بل يسعى إلى تعظيم الأثر النفسي والإعلامي، وبث شعور دائم بعدم الأمان لدى جماعات بأكملها، وتحويل الفرح الجماعي إلى ذاكرة خوف.
وفي المحصلة، وضع هجوم بوندي الديمقراطيات الغربية أمام اختبار معقّد. فالتحدي لم يعد محصورًا في تعزيز الإجراءات الأمنية، بل في تحقيق توازن دقيق بين حماية الحريات العامة، وضبط الخطاب المتطرف، وتعزيز الأمن الوقائي، دون الانزلاق إلى سياسات جماعية عقابية قد تُغذّي مزيدًا من الاحتقان. وبين بطولة فردية كشفت هشاشة اللحظة، وفشل جماعي في المنع المبكر، يتأكد أن مواجهة الإرهاب اليوم لم تعد أمنية فقط، بل فكرية ومجتمعية بامتياز.
تداعيات داخلية وضغط دولي
أطلق هجوم بوندي سلسلة واسعة من ردود الفعل الدولية الغاضبة، عكست حجم الصدمة التي أحدثها الاعتداء، ليس فقط داخل أستراليا، بل في العواصم العالمية أيضًا. فقد سارعت دول ومنظمات دولية إلى إدانة العملية بوصفها عملًا إرهابيًا يستهدف مدنيين على خلفية دينية، في موجة تضامن غير مسبوقة أكدت أن استهداف الجاليات والأعياد الدينية بات يُنظر إليه كتهديد مباشر للقيم الإنسانية المشتركة، لا كحادث محلي معزول.
في قلب هذه الردود، برزت الانتقادات الإسرائيلية الحادة للحكومة الأسترالية، حيث وُجّهت اتهامات مباشرة بالتراخي أمام تصاعد معاداة السامية، وربطت تل أبيب بين الهجوم وقرارات سياسية أسترالية سابقة أثارت جدلًا واسعًا. هذا الخطاب التصعيدي وضع كانبيرا تحت ضغط دبلوماسي مكثف، وحوّل المأساة الأمنية إلى ملف سياسي دولي تتداخل فيه الاعتبارات الأمنية مع الحسابات الجيوسياسية.
في الداخل، حاولت الحكومة الأسترالية السير على خيط رفيع بين احتواء الغضب المجتمعي ومنع الانزلاق إلى حالة ذعر عام. ورغم تصنيف الهجوم كعمل إرهابي، امتنعت السلطات عن رفع مستوى التهديد الوطني، مفضلة التركيز على تعزيز الإجراءات الأمنية الوقائية حول دور العبادة والمناسبات الدينية، مع إطلاق رسائل سياسية تؤكد وحدة المجتمع ورفض الانتقام الجماعي أو تحميل فئات بعينها مسؤولية الجريمة.
اللافت أن الإدانات لم تقتصر على حلفاء أستراليا التقليديين، بل شملت دولًا ذات مواقف سياسية متباينة، من الولايات المتحدة وأوروبا إلى إيران وقطر ولبنان. هذا التلاقي النادر، رغم اختلاف الخلفيات والدوافع، يعكس إجماعًا دوليًا متزايدًا على خطورة هذا النمط من الإرهاب القائم على الكراهية الدينية، حتى وإن بقيت البيانات محكومة بحسابات سياسية مختلفة، تؤكد في جوهرها أن العنف ضد المدنيين بات تهديدًا عابرًا للانقسامات الدولية.
الإعلام… مرآة الحدث أم صانع روايته؟
أظهرت التغطية الإعلامية لهجوم شاطئ بوندي تباينًا واضحًا في زوايا المعالجة والسرد، ما أعاد طرح سؤال قديم متجدد: هل الإعلام يكتفي بعكس الحدث، أم يشارك في تشكيل روايته؟ فبينما انطلقت الأخبار من واقعة أمنية واحدة، تشكلت حولها روايات متعددة، كل منها يحمل أولويات سياسية وثقافية مختلفة.
في الإعلام العربي، طغى التركيز على البعد الإرهابي الصريح للعملية، وعلى كونها استهدافًا مباشرًا للجالية اليهودية خلال مناسبة دينية. هذا الطرح جاء منسجمًا مع حساسية المنطقة تجاه قضايا الإرهاب والهوية الدينية، ومع ميل الصحافة العربية إلى قراءة الأحداث من زاوية الصراع الأوسع المرتبط بالتطرف العنيف وتداعياته الإقليمية، ما جعل السرد يميل إلى توصيف الحدث بوصفه جزءًا من موجة عالمية من العنف الأيديولوجي.
في المقابل، أولى الإعلام الغربي اهتمامًا أكبر بـالتفاصيل الإنسانية والميدانية، من شهادات الناجين وقصص المصابين، إلى تسليط الضوء على الدور البطولي للمدنيين ومسار التحقيقات الجنائية. كما برز التركيز على الضغط السياسي والدبلوماسي الذي واجهته الحكومة الأسترالية، في محاولة لربط الحدث بأسئلة تتعلق بالسياسات العامة، وأداء الأجهزة الأمنية، ومسؤولية الدولة في حماية مواطنيها.
هذا التباين في السرد لا يعكس اختلافًا مهنيًا بقدر ما يكشف عن أن العمليات الإرهابية تتحول سريعًا إلى ساحة صراع روائي، تتنافس فيها وسائل الإعلام على تفسير المعنى قبل تثبيت الوقائع النهائية. فطريقة سرد الحدث لا تقل تأثيرًا عن الحدث نفسه، لأنها تشكّل وعي الجمهور، وتحدد من هو الضحية، ومن هو الجاني، وما هي الدروس المستخلصة. وفي هذا السياق، يصبح الإعلام شريكًا فاعلًا في معركة المعنى، لا مجرد ناقل محايد لما جرى على الأرض.
الخلاصة: ما بعد بوندي
هجوم شاطئ بوندي ليس حادثًا معزولًا، بل إنذارًا مبكرًا بأن الإرهاب يتكيّف مع البيئات الآمنة، ويستغل التوترات السياسية والرمزية الدينية.
التحدي الحقيقي أمام أستراليا – والغرب عمومًا – لم يعد فقط في منع الهجوم القادم، بل في تفكيك بيئة الكراهية قبل أن تتحول إلى رصاص.
وفي ظل استمرار التحقيقات، يبقى السؤال مفتوحًا:
هل سيكون بوندي نقطة تحوّل في مقاربة الإرهاب، أم مجرد رقم جديد في سجل العنف العالمي المتصاعد؟










0 تعليق