خارج السطر
الأحد 14/ديسمبر/2025 - 07:56 م 12/14/2025 7:56:14 PM
يُغيّب الموت وجوهاً نحسبها دائمة، يبدو كصياد مُحترف، يسير بُخطى ثابتة، لا يكترث لبسمة طفل تجاه أم حنون، أو يلتفت لنظرة محبة من إنسان لآخر. يتمعّن فى هدفه ببرود صاحب مُهمة حتمية، ثُم يُمسكه بقوة، ثُم يشبك ذراعا بذراع ليسيرا معا نحو ضفاف أخرى، لم نرها ولم نعرف عنها سوى ما ذكرته لنا الكتب السماوية. فكما قال محمود درويش فى جداريته الفذة «لم يعُد أحدٌ من الموتى ليُخبرنا الحقيقة».
ما الموت سوى لحظة حقيقة دامغة، خطوة بين عالمين صاخب وساكن، حبل بين مشاعر الظن واليقين، انطفاء عقل وتحرر روح، إجازة أعضاء وتقاعد حواس، رحلة بلا تخطيط مسبق أو دليل أو إشارات طريق، ضيف غير متوقع، زائر لا يستأذن، قادم حتمى لا مهرب منه.
فى يومين متتاليين انطفأت حياتا صديقين كريمين، تركا فى القلب غصة غياب، رسما ظلالا من الألفة والذكريات الجميلة فى نفسى وفى نفوس محبيهما. أما أولهما فهو الزميل محمد عبد الواحد، الصحفى الخلوق فى صحيفة «الأخبار»، والذى عمل معنا فى «الوفد» سنوات طويلة ترك فيها إرثا من المحبة والبسمة والأدب الجم. أما الثانى فهو الناشر الكبير محمد هاشم الذى نذر حياته لحرية الكلمة، وفتح نوافذ واسعة لمبدعين عظام أطلوا بها على فضاءات الابداع، فصنعوا أمجادا وألهموا أجيالا. رحلا الاثنان مصحوبين بمشاعر الحب والامتنان والتقدير، لأنهما حققا وجودا حقيقيا لا يُمكن أن يتلاشى بغيابهما.
يبقى الأثر فى نفوس الناس دليلاً على وجود يتجاوز عدد سني العمر الفعلية. لم يمُت الأنبياء والمرسلون، لم يغب المصلحون الحقيقيون، لم يرحل مَن فكروا وأبدعوا، لم يتلاشَ وجود صناع الجمال شرقا وغربا، فكما يقول محمود درويش: «هزمتك يا موت الفنون جميعها، هزمتك يا موت الأغانى فى بلاد الرافدين/ مسلة المصري/ النقوش على حجارة معبد/ هزمتك وانتصرت وأفلت من كمائنك الخلود».
عندما رحل مصطفى كامل عام 1908 وبكاه الناس حزنا لوفاته المبكرة رثاه أحمد شوقى بقصيدة عظيمة مطلعها «المشرقانِ عليك ينتحبانِ/ قاصيهما فى مأتمٍ والداني» وفيها بيت رائع يُمثل خُلاصة الحياة والموت ودروس الدروس للإنسان، إذ يقول «دقاتُ قلب المرء قائلةٌ له/ إن الحياة دقائق وثواني/ فاحفظ لنفسك بعد موتك ذكرها/ فالذكر للإنسان عُمر ثانِ».
فالذكر يُطيل العمر، وربما يُخلده. لذا يدعو الأذكياء بطول الأثر لا العمر. ومتى تحقق ذلك لإمرىء ما فقد نال العلا فى الدنيا.
يموت الحاكم والمحكوم، الطالح والصالح، الظالم والمظلوم، الطيب والوغد، نافخ الكير وحامل المسك، وتبقى أعمالهم خالدات ساكنات فى نفوس البشرية. ما صنعوا وما تركوا. ما قالوا وما فعلوا. تبقى أنفاسهم شاهدة، وصنائعهم حية كبرهان على أنهم ساروا على هذه الأرض، ثم مضوا حاملين معهم حقائبهم إلى العالم الآخر عند حكم أوحد أعدل وأرحم وأعظم. فلعلنا نعتبر، ولعلهم يفعلون.
والله أعلم
















0 تعليق