الهجرة غير النظامية من أفريقيا بين الأمن والتنمية

الوفد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

 


لم تعد الهجرة غير النظامية من أفريقيا مجرد ظاهرة إنسانية ثانوية أو موضوعًا يتداوله الإعلام فقط، بل تحولت إلى أزمة دولية معقدة تتداخل فيها أبعاد السياسة، والاقتصاد، والأمن، والحقوق الإنسانية. في قلب هذا الواقع تكمن حقيقة واحدة: الملايين من الأفارقة لا يغادرون القارة بدافع “المغامرة” بل بسبب الفقر، والصراعات، وتدهور الخدمات، وتغير المناخ، مما يجعل الهجرة خيارًا اضطراريًا بالنسبة لهم.

تشير أحدث البيانات إلى أن عمليات الهجرة غير النظامية المسجلة من أفريقيا إلى أوروبا ودول الخليج عرفت هبوطًا ملحوظًا في 2024 إلى حوالي 146,000 حالة، مقارنةً بـ282,000 في 2023، وهو تراجع كبير يُعزى إلى تشديد الإجراءات الأمنية في شمال وغرب أفريقيا، بما في ذلك جهود دول مثل المغرب وجيبوتي وتونس في مراقبة الحدود والبحرية والتعاون مع الاتحاد الأوروبي للتصدّي للتهريب البحري على المتوسط.  

رغم هذا الانخفاض، لا يزال خطر الرحلات البحرية محفوفًا بالمخاطر، إذ توفّي أو فُقد نحو 4,465 مهاجرًا في محاولات العبور البحري عام 2024، ثلاثة أرباعهم خلال محاولات العبور عبر البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، مما يؤكد أن القيود الأمنية لم تُنهِ الظاهرة، بل حولتها إلى أفعال أكثر خطورة واعتمادًا على شبكات التهريب.  

الحال في أفريقيا يشكّل دوافع الهجرة بوضوح أكبر: الشباب بلا فرص عمل، الفقر المزمن، النزاعات المسلحة في دول مثل السودان وإثيوبيا، والجفاف المتصاعد الذي يدفع السكان إلى البحث عن سبل عيش بديلة خارج حدود دولهم. ومع غياب سياسات تنموية فعلية تُحدث تغييرًا في واقع حياة المواطنين، تظل المهاجرة عبر طرق خطرة إلى أوروبا أو الخليج خيارًا مريرًا لكنه نهاية محتملة لكثيرين.

في هذا الإطار، اتخذت مصر، الواقعة عند مفترق طرق الهجرة بين شمال أفريقيا وشرقها، خطوات أمنية وتنظيمية مهمة لإدارة هذه الظاهرة منذ منتصف العقد الماضي. فقد نجحت السلطات المصرية في منع انطلاق رحلات الهجرة غير النظامية من سواحلها منذ عام 2016 بواسطة تعزيز مراقبة الحدود، وتعاون أمني مع الشركاء الإقليميين، فضلاً عن حملات التوعية بخطورة الرحلات البحرية غير الآمنة.  

إضافة إلى ذلك، اتجهت مصر نحو المقاربة التنموية في الداخل من خلال اتفاقيات وشراكات تستهدف معالجة الأسباب الجذرية للهجرة. ففي إطار التعاون مع الاتحاد الأوروبي، أطلق جهاز تنمية المشروعات مبادرات في 11 محافظة لتطوير المشاريع الصغيرة ومتناهية الصغر، وتوفير فرص عمل مستقرة لشباب المناطق الأكثر تأثرًا بالفقر والبطالة، كجزء من الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الهجرة غير الشرعية (2016–2026).  

لكن هل يُعد هذا كافيًا؟ يبقى الجدل قائمًا بين من يرى أن المقاربة الأمنية هي الحل الوحيد القادر على وقف تدفق المهاجرين، وبين من يؤكد أن التركيز على الأمن وحده لن يردع من يُجبرهم واقع حياتهم على الهروب. المقاربة الأمنية يمكن أن تحقق انخفاضًا مؤقتًا، كما يظهر من تراجع الأعداد في 2024، لكنها لا تُغيّر الدوافع الحقيقية التي تدفع شخصًا إلى ترك وطنه وثقافته ومستقبله بحثًا عن فرصة أفضل.  

من جانب آخر، الحل التنموي، رغم أهميته لبناء اقتصاديات محلية قوية وتوفير بدائل حقيقية للعمل والمعيشة، يحتاج إلى استثمارات طويلة المدى، إصلاحات جذرية، وتعاون إقليمي ودولي فعّال. فبدون استقرار سياسي، وحوكمة رشيدة، وفرص اقتصادية حقيقية للشباب، ستظل الهجرة غير النظامية خيطًا متصلًا بأمل من لا أمل له في البقاء.

الحقيقة المؤلمة أن الحلين — الأمن والتنمية — لا يمكن فصلهما. الأمن قد يشتري الوقت ويقلل من مخاطر الطرق الخطرة، لكنه لا يخلق الأمل في البقاء. أما التنمية فهي وعد بالمستقبل، لكنها تأخذ وقتًا طويلًا وتحتاج إرادة قوية وتعاوناً متعدد الأطراف. وفي غياب مقاربة شاملة تُعالج جذور المشكلة كما تعالج آثارها، سيبقى آلاف الأفارقة يُقدِمون على المخاطرة بحياتهم في سبيل الوصول إلى ما يعتبرونه مدخلًا لحياة أفضل
ففي السنوات الأخيرة، تحولت أفريقيا إلى أحد أكبر مصادر الهجرة غير النظامية في العالم، خاصة من مناطق الساحل والقرن الأفريقي وشمال أفريقيا. دوافع الهجرة لم تعد اقتصادية فقط، بل باتت خليطًا معقدًا من غياب الفرص، وتدهور الخدمات، وارتفاع البطالة بين الشباب، إضافة إلى النزاعات المسلحة والجفاف والتصحر. هذا التشابك جعل الهجرة خيارًا اضطراريًا لا مغامرة، خاصة لجيل شاب يشعر أن مستقبله مسدود في بلاده.

في المقابل، تبنّت أوروبا خلال العقد الماضي مقاربة أمنية واضحة، تمثلت في تشديد الرقابة على الحدود، ودعم خفر السواحل، وتوقيع اتفاقيات مع دول العبور مثل ليبيا وتونس، فضلًا عن تقديم مساعدات أمنية لدول المصدر. ورغم أن هذه السياسات نجحت مؤقتًا في خفض الأعداد على بعض المسارات، فإنها لم تُنهِ الظاهرة، بل ساهمت في تغيير طرق الهجرة، وجعلها أكثر خطورة، وأحيانًا أكثر دموية.

الرهان على الحل الأمني وحده أثبت محدوديته، لأنه يتعامل مع نتائج الأزمة لا جذورها. فالشباب الذي يفر من البطالة أو الحرب أو الجفاف، لن تردعه الأسلاك الشائكة ولا الدوريات البحرية، بل سيبحث عن مسارات بديلة مهما كانت المخاطر. بل إن تشديد القبضة الأمنية كثيرًا ما فتح الباب أمام شبكات التهريب والجريمة المنظمة، التي ازدهرت مستفيدة من يأس المهاجرين.

في المقابل، تطرح المقاربة التنموية نفسها كحل طويل المدى، لكنها الأصعب والأكثر كلفة. التنمية هنا لا تعني المساعدات المالية فقط، بل بناء اقتصادات محلية قادرة على خلق فرص عمل حقيقية، وتحسين التعليم، ودعم الزراعة، والاستثمار في المناطق المهمشة التي تُعد الخزان الأكبر للهجرة. كما تشمل التكيف مع تغير المناخ، الذي أصبح أحد أبرز محركات النزوح في أفريقيا، خاصة في الصومال وإثيوبيا ودول الساحل.

غير أن التنمية وحدها، دون استقرار سياسي وحوكمة رشيدة، تبقى ناقصة. فالفساد، وضعف المؤسسات، وغياب العدالة الاجتماعية، كلها عوامل تُفرغ أي مشروع تنموي من مضمونه. لذلك، فإن معالجة الهجرة غير النظامية تتطلب مقاربة شاملة، تدمج بين الأمن والتنمية، بدل وضعهما في مواجهة بعضهما البعض.

الحل الأكثر واقعية يكمن في مزيج ذكي بين ضبط الحدود، ومحاربة شبكات التهريب، وفي الوقت نفسه الاستثمار الجاد في الإنسان الأفريقي داخل بلاده. فالأمن قد يشتري الوقت، لكنه لا يصنع الأمل، بينما التنمية تخلق بديلًا حقيقيًا للهجرة، لكنها تحتاج صبرًا وإرادة سياسية.

في النهاية، ستظل الهجرة غير النظامية مرآة لأزمات أعمق في أفريقيا والعالم. وكلما استمر التعامل معها كتهديد أمني فقط، دون معالجة أسبابها الجذرية، ستبقى القوارب تمخر البحر، حاملة معها أحلامًا مكسورة وأسئلة مفتوحة عن عدالة النظام الدولي نفسه.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق