الأحد 14/ديسمبر/2025 - 06:07 م 12/14/2025 6:07:47 PM
مرحبًا بكم في قريتنا المصونة، المطلة على ترعة الجبّادة العليا، وعلى كوبري المحطة حيث كانت الذكريات تُحمل على أكتاف قطار الشرق. هنا، حيث كانت الوجوه مرآة القلوب، تغيّرت الملامح وتبلدت النفوس مع نسخة رقمية من نهاية عامٍ ينتمي إلى الربع الأخير من القرن الحادي والعشرين، من ألفيةٍ جديدةٍ صار فيها الحلال مُكلفًا حدّ الألم، والحرام مجانيًا كأنما يُوزَّع بقرارٍ جمهوري.
مرحبًا بكم في زمنٍ صارت فيه الوجبات السريعة أسرع وصولًا من عربات الإطفاء والإسعاف والأمن؛ وفيه صار فقدان الهاتف أشد وجعًا من فقدان الكرامة، وصار الثوب يحدد قيمة الإنسان، وكأن القلوب لم تعد تُقاس إلا بماركاتٍ تُطرَّز على الجيوب. زمنٌ أصبح فيه الوفاء قطعة من متحفٍ مهجور، وصار المال تمثال الحرية والعدالة والمساواة الجديد.
وأنا أقولها بلا تجميل: نحن أبناء الغروب والعتمة، جيلٌ وُلد من آباء لا يحملون شهادات… بل أحيانًا لا يحملون حتى شهادات ميلاد. جيلٌ خرج إلى الدنيا في لحظات الغروب، في حقول القطن، وعلى أسطح البيوت الطينية، وحول المراقد القديمة. كنا نحلم بأن نرتدي حذاءً من محلات «باتا»، وأن نملك قميصًا وبنطالًا دون ترقيع. تربّينا على القناعة، وكنّا نظن أن الدنيا تُقاس بعرق الجبين لا بسمسرة النفوذ. ومع ذلك، كلما تهشّمت الحقيقة أمام أعيننا، تذكّرنا أن لا يصحّ إلا الصحيح. كم يدهشنا أننا نقف أمام القبور بشجاعة وبلا موعظة… بينما نقف أمام القصور بخوفٍ يقطع الأنفاس.
أهلا بكم في عصر الوحوش… عصر الـ«لا شيء»، حيث نحن جيل أبناء الغروب والعتمة، ورثة الرأسمالية المتوحشة. هنا، الكذب يُسمّى فهلوة، والخيانة تترقى إلى «ذكاء»، والفقر يُرمى في سلة العيوب، والعري صار قمّة الأناقة، أما الحياء فهو تهمة جاهزة بالتخلّف. الجمال أصبح عامل الجذب الأول، وكسر الخاطر صار «صراحة»، وجبر الخواطر يُوصَف بالطيبة الساذجة. المال — ولو كان حرامًا — يجبر الرقاب أن تنحني احترامًا، بينما المبادئ والقيم تُرمى على أنها أثقال الماضي.
هنا، في عصر أنصاف الرجال، عصر الرشوة والمال السياسي، يتحول الأبيض إلى أسود، والأسود إلى «بني»، والحق إلى «قابل للنقاش»، والباطل إلى «وجهة نظر». اكذب… ثم اكذب… تُصبِح محترفًا من الناحية المهنية، وإن كنت ساقطًا أخلاقيًا بكل المعايير.
ولأن الزمن انقلب على عقبيه، صار المفكر والمثقف — صاحب العقل والضمير — بلا مكان. أما من لا يشارك الفاسدين فسادهم فهو منبوذ، محارب، يُنظر إليه كدخيلٍ على الطين. تخيلوا أن أصحاب المال السياسي أصبحوا “وطنيين”، وأن معيار الرجولة أصبح حجم السرقة ونوع السيارة. وإن اعتزلت الناس حفاظًا على نقائك، وضعوك تحت المراقبة، لأنك — في منطق هذا العصر — خطر على الوطن.
فأهلًا بكم، مرة أخرى، في قمة الزيف… وأسوأ نسخة عرفتها البشرية من نفسها.
ومع ذلك، ما زلت أقولها، ثابتًا عليها ما حييت:
﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾.
كاتب وباحث مصري ومتخصص في الجيوسياسية والصراعات الدولية.


















0 تعليق