قال الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية الأسبق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إنَّ اهتمامَنا باللُّغةِ العربية نابعٌ من كونِها اللُّغةَ التي نزل بها القرآنُ الكريم، ومن كونِها اللُّغةَ التي نُقِلَتْ ودُوِّنَتْ بها السُّنَّةُ النبويةُ الشريفة.
اللغة العربية هى الوجه الآخر للفكر
وأوضح أن اللغة العربية تُعَدُّ الوجهَ الآخرَ للفكر؛ فكلما استقامتِ اللُّغةُ استقامَ الفكر، ولا استقامةَ للفكرِ دون استقامةِ اللُّغة. ومن ثَمَّ فإنَّ العنايةَ بالعربية لها أثرُها في استقامةِ الفكر والتفكير، وفي فَهْمِ كتابِ الله سبحانه وتعالى، وفي التأثُّرِ بإعجاز القرآن الكريم بما يورث الخشوعَ والخضوعَ والسجودَ لله تعالى عند تلاوة هذا الكتاب العظيم، كما أن لها أثرًا في حياة الإنسان؛ إذ إنَّ الفكرَ المستقيم فكرٌ منفتحٌ مُبدِعٌ لا نهايةَ لإبداعه، فإذا استقام زاد الإبداعُ لا الاضطرابُ، وإذا شُوِّشَ اضطربت المعاييرُ والتبس الطريق.
وأضاف الدكتور علي جمعة أن من هنا يظهر لنا وجهُ الخطورة في بعض الاتجاهات المتطرفة المنسوبة إلى مدارس ما بعد الحداثة؛ إذ ترى أنَّ الفكر البشري لا يبدع ولا ينطلق إلا بزوال خمسة أشياء: «الثقافة، والدين، والأسرة، والدولة، واللغة». فرفعُ سلطان الثقافة السائدة يجرّ—في نظرهم—إلى ما يسمونه «النسبية المطلقة»، والتحررُ من سلطان الدين قد جُرِّب في التجربة الغربية بصورٍ متعددة، ثم جاءت محاولاتُ إعادة تعريف الأسرة تعريفًا سائلاً لا يثبت على معانيها التي استقرت في الوجدان الإنساني عبر القرون، حتى صار اللفظ عندهم يُطلَق على أيِّ اثنين؛ ولم يعد المراد أسرةً: أبًا وأمًّا وأبناء. ويعدّون ذلك من «المعاني المعجمية»، أي المعاني التي وُجدت في المعجم اللغوي، ومن هذا المدخل أصبح الشذوذُ الجنسي—الذي لُعِنَ عند عقلاءِ البشر—من حقوق الإنسان.
وأما رفعُ سلطان الدولة واستبدالُها بالجمعيات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني فإنه يحتاج إلى تغيير النظام القانوني والاجتماعي، بل يقتضي تغييرَ الفكر والنموذج المعرفي والإطار المرجعي.
غير أنَّ إنهاء سلطان اللغة العربية هو الأمرُ الأشدُّ إفزاعًا، ومما يُستحضَر هنا ما أكده الأستاذ شريف الشوباشي في حديثه عن مكانة اللغة، وأنها ليست وسيلةَ تواصلٍ فحسب، بل [لتحيا اللغة العربية]. وهذا يوافق ما نعتقده في شأن اللغة.
وأكد جمعة أن عند بعض هؤلاء الحداثيين تُختزل وظيفة اللغة في «التلقي» وحده؛ ومعنى ذلك أن يحمل السامعُ الكلامَ على ما يشاء من معنى بغضِّ النظر عن مراد المتكلم، فيُفتح بابُ التأويل بلا ضابطٍ ولا رابط، ونصل إلى «النسبية المطلقة»؛ حيث يفهم كلُّ سامعٍ ما يشاء أن يفهم، ولا يُراعى حملُ الكلام على ما وُضع له في لسان العرب، ولا على مراد المتكلم وسياقه. وهنا تتجلى منزلة العربية مرةً أخرى: فهي بما لها من نظامٍ ونَسَقٍ وضوابطَ في الدلالة والاستعمال، وبما استقر فيها من علومٍ خادمةٍ للمعنى (نحوًا وصرفًا وبلاغةً وأصولًا)، تُعين على ضبط الفهم، وتمنع من فوضى التلقي، وتُقرِّب من المراد الإلهي في الكتاب، والمراد النبوي في السنة.
اللغة العربية لها خصوصيتها وتميزها
ونبه على إننا أمام لغةٍ لها خصوصيتُها وتميُّزُها، ولها دُسْتُورٌ ونَسَقٌ؛ والبشرُ يتكلمون بأكثرَ من خمسةِ آلافِ لُغَةٍ، وهذه اللُّغاتُ—كما تُشير تقارير اليونسكو—تضعف وتموت حتى تنقرض بموتِ آخرِ من يتكلم بها، حتى إنهم يذكرون أنَّه في كل خمسةٍ وعشرينَ يومًا تموت لغةٌ بموتِ آخِرِ من كان يتكلم بها، ولكنَّ اللُّغَةَ العربية ليست معدودةً في هذا؛ بل هي معدودةٌ من اللُّغاتِ العالميةِ المتمكِّنة؛ ولذلك أُقِرَّتْ في الأمم المتحدة، وأُقِرَّتْ في مكتبة الكونجرس الأمريكي؛ لأنَّها لغةٌ لها حضارتُها ولها ثقافتُها.


















0 تعليق