باختصار
الأحد 14/ديسمبر/2025 - 08:00 م 12/14/2025 8:00:25 PM
الشعب المصرى منذ قديم الأزل اعتاد الأزمات بل إنه تعايش معها وتفوق عليها، غير مبالٍ بقوتها مهما كانت وحاربها بالصبر والنكات اللاذعة وكله يقين وثقة فى نصر الله، وأن أشد لحظات الليل ظلمة تلك التى تسبق ضوء الفجر.
الأزمات فى تاريخ المصريين ليست استثناءات طارئة ترتبط بحقبة دون أخرى، لكنها فى الحقيقة جزء أصيل من المشهد اليومى ما بين ضغوط المعيشة وارتفاع الأسعار وتآكل الدخول وطوفان التقلبات الاقتصادية المتلاحقة، بخلاف هموم مصروفات الدراسة والعلاج والسكن والمواصلات، وغيرها من طابور الهموم التى تختلف أولوياتها من شخص لآخر.
كل هذه المشكلات ما ظهر منها وما بطن لم تعد أخبارًا صادمة، لكنها واقع يومى يتكرر ما بين ارتفاع وهبوط حتى فقد عنصر المفاجأة، وبات المصرى يواجهها بشعار يحفظه الجميع «اللهم اجعله خيرًا»، وهونها تهون. وهنا يفرض سؤال جوهرى نفسه بقوة: هل اعتاد المصرى الأزمات المتوالية، أم أنه تعلم التعايش معها؟
الفارق بين التعود والتعايش كبير، أما الأول فيعنى فقدان الإحساس من كثرة المصائب التى لا تنتهى، فى حين يعنى الثاني- التعايش- أن المصرى بات يحمل قدرًا من الوعى والقدرة على التكيف مع الأوضاع مهما بلغت ذروتها.
صفحات التاريخ المدونة جميعها أكدت أن المصريين بطبعهم شعب له طبيعة خاصة، وأنهم لم يكونوا يومًا شعبًا بلا رد فعل، لكنه شعب يحمل جينات فريدة ويمتلك قدرة كبيرة على امتصاص الصدمات وتحويلها إلى مواطن قوة دون أن يفقد توازنه.
بين ضغوط الحياة اليومية وطوارئ الليل والنهار، لا يزال المواطن المصرى الذى يدبر أمور حياته بعبقرية يعجز جهابذة الاقتصاد عن فك طلاسمها، يُعيد ترتيب أولوياته ويواصل الحياة تحت ضغوط لا يتحملها بشر، بل ويبتكر وسائل جديدة للإنفاق ويتعامل مع احتياجاته واحتياجات أسرته الأساسية على طريقة الشطرنج، ويختصر متطلباته المعيشية، لا عن رضا بل وفق قاعدة- إذا جاءك الغصب خليه بجميله- بحثًا عن الاستمرار وتحويل الألم والمعاناة إلى طاقة إيجابية.
القدرة الفائقة على التحمل لدى المصريين، رغم إيجابيتها الظاهرة إلا أنها تحمل فى الوقت ذاته جانبًا مقلقًا يجب التوقف عنده، فالقدرة على التحمل لا تعنى القبول المطلق، كما أن الصمت هنا لا يعنى الرضا التام.
أخطر ما تواجهه المجتمعات كافة عمومًا ليس الغضب المعلن، بل الغضب الصامت الكامن فى الصدور الذى يتراكم كل يوم عن سابقه كاتمًا على الصدور دون تفريغ أو حوار. فليس معنى أن يتوقف المواطن عن الشكوى أنه قد تجاوز الأزمة، وباتت مفردًا أصيلًا فى حياته، بل ربما يكون قد وصل لمرحلة فقدان الأمل فى جدوى الشكوى ذاتها أو أنه يسير على نمط مثل «الأذان فى مالطا».
وفى الوقت نفسه يجب ألا نغفل كذلك حقيقة مهمة مفادها، أنه لا يمكن تجاهل أن الأزمات المتلاحقة أعادت تشكيل وعى المواطن، الذى بات لا ينتظر حلولًا سريعة، ولا يثق فى الوعود المؤجلة، بل بات يقيس الأمور بميزان الواقع المبنى على التجارب الشخصية والمجتمعية، وليس بميزان التصريحات الحكومية الوردية ولا الخطابات الجوفاء.
هذا التحول الجوهرى فى شخصية المصريين، يزيد من مسئولية صانع القرار، ويفرض عليه أنماطًا جديدة من الحلول تميل أكثر إلى الواقع وقابلة للتحقيق والتنفيذ، فالمواطن الذى تعوّد وتعلّم التعايش مع هذا الواقع المتقلب، بات إقناعه صعبًا ويتطلب مصداقية تتطابق فيها الأقوال مع الأفعال، ويخشى من غضبه إذا تجاوزت الضغوط حدود الاحتمال.
الاعتماد على صبر الناس ومقدرتهم على التعايش ليس خيارًا دائمًا، كما أن التعايش مع الأزمات لا يجب أن يكون سياسة غير معلنة.. الصبر صفة حميدة لكنها قابلة للنفاذ، والتحمل إذا طال أمده تحول من فضيلة إلى عبء.
نحن نحتاج إلى طريقة مختلفة لإدارة الأزمات، تُعيد الثقة المفقودة، كما نحتاج إلى قنوات تواصل حقيقية، ووحدات رصد للأزمات ترصد هموم الناس ومعاناتهم على أرض الواقع، إلى أن نرفع فى الوزارات والمصالح الحكومية شعار «رضاء الناس غاية تُدرك». نحتاج إلى فتح قنوات تواصل حقيقية، يشعر من خلالها المواطن أن معاناته مرئية ومسموعة، وأنه يمثل رقمًا حقيقيًا مؤثرًا لا يستهان به.
باختصار.. المصرى لم يتعود الأزمات بقدر ما تعلم كيف يعيش معها ويسعى للتغلب عليها، لكن يبقى السؤال الأهم: إلى متى يمكن لهذا التعايش أن يستمر دون إيجاد حلول حقيقية تدفع هذا العبء وتُعيد الأمل للقلوب المرهقة والعقول المثقلة والابتسامة للشفاه البائسة؟
















0 تعليق