ناصر عراق: ليس بالكلام وحده يتم الحكي

الوفد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الأحد 14/ديسمبر/2025 - 06:10 م 12/14/2025 6:10:29 PM

 

لا يتعامل ناصر عراق مع الكتابة بوصفها مهنة أو هواية شخصية، بل يراها خلاصة حياة طويلة من التراكم والاختبار، حيث تتجاور العين المدرَّبة على الرؤية مع الحس السردي، ويتساوق السؤال النقدي مع متعة الحكي.
ينبع هذا المسار من شبرا البلد، لا كخلفية اجتماعية فحسب، بل كفضاء ثقافي صاغ وعيًا مبكرًا بالتعدد والانفتاح. في بيت يقدّس القراءة ويؤمن بقيم التنوير، تشكّل وجدانه على تماس حيّ مع الفكر والموسيقى والمسرح والسينما. هذا التكوين لا يحضر في كتاباته كحنين عاطفي، بل كطاقة داخلية انعكست في حس نقدي مرهف، وفي قدرة لافتة على التقاط التفاصيل الدقيقة التي تصنع المعنى.
ويكشف البودكاست عن المكانة العميقة للفن التشكيلي في مشروع ناصر عراق. علاقته بالفنان الكبير بيكار لم تكن مجرد تمرين على الرسم، بل تربية  العين على الرؤية والانتباه والجمال الكامن في الصورة. هنا تتجلى إحدى سمات كتابته الأساسية: السرد بوصفه فعل نظر قبل أن يكون فعل لغة. لذلك تبدو الصورة في نصوصه كثيفة ودالّة، منخرطة في سؤال الجمال وصلته بالسياق الاجتماعي، من دون الوقوع في زخرفة لفظية معزولة.
في تجربته بالصحافة الثقافية، ولا سيما في مجلة «دبي الثقافية»، قدّم عراق نموذجًا تحريريًا يراهن على تكامل الفكرة مع الشكل، وعلى اللغة والصورة والتصميم بوصفها عناصر معرفة لا زوائد تجميلية.  
أما في الرواية، فيكتب ناصر عراق بروح متأنية، لا تستعجل السرد ولا تستهلك موضوعاتها. في «الإزبكية» يحاور التاريخ بوصفه مرآة للراهن، مستنطقًا أسئلة الهوية والعلاقة بالآخر والغرب. وفي «العاطل» و«نساء القاهرة دبي» يتجه إلى تشريح التحولات الاجتماعية والنفسية، محافظًا على توازن دقيق بين تقديم متعة السرد وعمق التأمل.
ويضيف البودكاست بعدًا كاشفًا حين يتحدث ناصر عراق عن اهتمامه بعالم الحيوان بوصفه أفقًا لفهم السلوك الإنساني، وهذا الانفتاح على العلوم الطبيعية يرسّخ إيمانه بأن الأدب لا يزدهر في العزلة، وأن الخيال الحق يتغذى من تماس حيّ مع الفكر والطبيعة. 
وأنا أكتب هذه السطور عن معرفة شخصية بالرجل، إذ جمعتني بناصر عراق لسنوات عدة جلسات صالون أدبي في الشارقة، حيث كانت تتجلّى مواهبه في الحوار الشفهي كما في النص المطبوع، وحيث يُختبر الكاتب خارج شروط الكتابة المنعزلة، في فضاء النقاش الحي وتبادل الرأي والاختلاف. هناك، في تلك الجلسات الهادئة والعميقة، تأكد لنا أن تعدد وجوهه ليس قناعًا ثقافيًا ولا بناءً بلاغيًا، بل ممارسة فكرية يومية تقوم على الإصغاء واحترام التعدد وتقدير الاختلاف. 
وقد بدا لي على نحو جليّ أن تسامحه مع المختلف ليس شعارًا أخلاقيًا يقدّم عند الحاجة، بل سلوكًا معرفيًا وأخلاقيًا راسخًا، يرفع الإنسان فوق صغائر النزاعات الدينية والأيديولوجية، ويهديه إلى معارج الكرامة الإنسانية، حيث يصبح الفكر جسرًا لا متراسًا، والحوار أفقًا لا ساحة صدام.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق